سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

جاء دور العملة الورقية

أعلنت «فيسبوك» مؤخراً أنها تعمل على طرح عملة كونية جديدة تسمى «ليبرا» (من برج الميزان). عندما أفقت على هذه الدنيا، كانت العملة المعدنية سيدة النقد: خمسة قروش، وعشرة، وربع ليرة، ونصف ليرة مصنوعة من الفضة. ومن ثم الليرة الورقية التي تأخذك إلى السينما لحضور آخر الأفلام، ويبقى معك ما تشتري به قطعتي حلوى، ثم تعود إلى البيت مشياً.
عندما أوقفوا التعامل بقطعة نصف الليرة في الستينات، شعرت جدتي أن خللاً طرأ على حياتها الاقتصادية. فهي لم تكن تكف عن القول إنه، «على أيامها»، كان كيس الطحين بنصف ليرة. ولم تكن قد سمعت، ولا سمعنا، بشيء يدعى التضخم، مبيد الأرزاق، فكنا نعيد كل شيء إلى الغلاء وجشع الحكومة.
جئنا إلى لندن أواخر السبعينات، وكان الجنيه ليرة معدنية مذهبة. وكنا ندفعها لماكينة مخالفات ممنوع الوقوف. ألغيت وحلّت مكانها قطعة الليرتين. وأما ضبط المخالفة فتدفعه على بطاقة الائتمان؛ 50 ليرة على الأقل.
سألت في القاهرة مؤخراً إذا كان لا يزال هناك «القرش صاغ» فقيل: «أيوه». ولكن إيجار التاكسي قد يبلغ أحياناً 300 جنيه، التي كانت في الستينات راتب باشا. التضخم آفة مثل الطاعون، لكنها تقتل ببطء. كانت الألف ليرة في لبنان راتباً ممتازاً ومميزاً في السبعينات. اليوم لا تشتري جريدة ولا فطيرة صعتر. كان راتب النائب في البرلمان الأوروبي في السبعينات 20 ألف جنيه في الشهر. وسعر سيارة الجاغوار 5 آلاف. وأكرر، ربما للمرة العاشرة، أننا اشترينا منزلنا في ضاحية «بوشي هيت» بـ32 ألف جنيه مقسطة على 25 عاماً بـ400 باوند شهرياً. وكان مع البيت مسبح وحديقة وبَرَكة ربنا. وسمع عن البيت صحافي كان يحسد بناته، فراح يروي عن حديقة تملؤها التماثيل. وكاد يضمني إلى لائحة الابتزاز التي ينشرها أسبوعياً في بريد الخوات. والله على كل شيء قدير، واللهم رحمتك، فلا شماتة في الإشاعات الإجرامية. وكلها لا يُغتفر لأنها أسوأ من القتل. ولن تصدق تعالى، أن رجلاً مثلي يرفض بعد كل هذه السنين أن يغفر. لكنها مشيئتك وحدك. والظلم أحياناً أكبر من الغفران، لكن لا شيء أكبر من رحمتك.
لا أعرف كيف كان ينام هذا النوع من مجرمي الحسد وظلم المجان. ولم أكن أملك سوى شيء واحد: لا أن أنتقم، بل أن أشكوهم لربي. ولا أن يعاقبهم. أما إذا كانت تلك مشيئته، فليكن عقابهم لسبب غير سببي. اللهم سامحني لأنني لم أستطع أن أهبّ لمساعدتهم وقد رأيتهم يدفعون أثمان الافتراء والتجني السهل والمجاني.
ولكن لماذا تذكر كل ذلك الآن؟ لأن التضخم طاعون: المالي، والعقاري، والزراعي. وتضخم الكذب الإجرامي. فيوم كنت أقسط 400 جنيه شهرياً على 25 سنة، كان ذلك الحاسد الصغير الصدر من كبار الأثرياء.