أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

حقيقة الاستفزازات الإيرانية ودوافعها

لم يعد التصعيد الإيراني واستفزازاته المهددة لأمن المنطقة والعالم يقتصر على الشعارات التعبوية والتهديدات الحادة التي اعتدنا سماعها من حكام طهران، بل صار يتخذ اندفاعات عدوانية عسكرية متواترة ازدادت طرداً مع تصاعد العقوبات الاقتصادية الأميركية، بدأت في مايو (أيار) الماضي بالتخريب المتعمد لأربع ناقلات نفط في مياه الإمارات الإقليمية، ثم التعرض في يونيو (حزيران) الماضي لناقلتي نفط في خليج عُمان، إحداهما نرويجية والأخرى يابانية، بالتزامن مع تواتر هجمات غامضة في العراق ضد المصالح الأميركية، طال آخرها تجمعاً لمؤسسات نفطية يضم شركتين أميركيتين، تلا ذلك إسقاط طائرة استطلاع أميركية من دون طيار قرب مضيق هرمز، ثم إعلان زعماء إيران عن جاهزيتهم لتفعيل مشروعهم النووي، إنْ بزيادة مخزونهم من اليورانيوم منخفض التخصيب، وإنْ برفع نسبة التخصيب لتتجاوز ما سمح به اتفاقهم النووي مع الدول الكبرى.
ربما لا يخطئ من يفسر تواتر استفزازات قادة طهران وإظهار العزم والقوة على خوض حرب، كمحاولة للتأثير على الخلافات القائمة داخل الإدارة الأميركية في الموقف من سياساتهم، ولمنح مزيد من النقاط لمراكز القوى السياسية والعسكرية التي ترفض الحرب، وتميل لإبداء بعض المرونة في التعاطي معهم، وتطالب بتخفيف العقوبات الاقتصادية وليس تشديدها، لتشجيعهم على العودة إلى طاولة المفاوضات، وأيضاً كمحاولة للتأثير في مسار انطلاق حملة الترشيح والتحشيد لانتخابات الرئاسة الأميركية في رهان على إحراج ترمب، وتوسيع فرص وصول رئيس أميركي جديد إلى البيت الأبيض يتفهم مصالح إيران ونفوذها في المنطقة.
وربما لا يجانب الصواب من يضع ما يحدث في إطار لعبة عض الأصابع أو السير على حافة الهاوية، ويعتقد هؤلاء أن السلطة الإيرانية تتطلع من وراء دفع الضغوط والاستفزازات إلى الحد الأقصى، لتحسين الموقع والأوراق التفاوضية وإكراه البيت الأبيض على تخفيف اشتراطاته في مباحثات يعتقد كثيرون أنها لا بد قادمة، ربطاً باستثمار المخاوف العالمية وقوة الصدمة التي سيحدثها اندلاع حرب في المنطقة على إمدادات الطاقة؛ حيث سيتوقف أكثر من ثلاثين في المائة من صادرات النفط التي تمر من الخليج العربي، وتسبب أضراراً بالغة لكثير من الدول المستوردة له، وربطاً باستثمار التمايز بين المصالح الأوروبية والأميركية، الذي انعكس في عدم مجاراة عواصم أوروبا انسحاب واشنطن المنفرد من الاتفاق النووي، وفي وعود بالمساعدة على تخطي العقوبات الأميركية أو التخفيف من آثارها، إن حافظت طهران على التزامها بالاتفاق النووي، وأيضاً ربطاً بالركون والاطمئنان إلى أن البيت الأبيض لا يسعى إلى الحرب، كما أشار أكثر من مسؤول أميركي، ولا إلى تغيير نظام الحكم في طهران، بل إلى تغيير سياساته، والتفاوض معه على اتفاق جديد، ودليلهم تراجع الرئيس ترمب، في آخر لحظة، عن توجيه ضربة عسكرية إلى الجمهورية الإسلامية رداً على إسقاط طائرة الاستطلاع، والمرونة الأميركية اللافتة في تقبل وساطات التهدئة ووقف التوتر.
صحيح أن ثمة ما يشبه الإجماع على أن التصعيد المتبادل بين واشنطن وطهران لن يقود إلى حرب واسعة، ليس فقط لأن الطرفين يقدران جيداً ما قد يترتب عليها من نتائج كارثية على استقرار المنطقة، وليس أيضاً لانعكاساتها الاقتصادية والمالية السلبية على الإقليم والعالم كله، وصحيح أن التصعيد الإيراني ودفعه حتى حده الأقصى، واتخاذه أشكالاً استفزازية ومحرجة، يحمل فرصة خطيرة لإشعال فتيل حرب في الإقليم، تحدوها أخطاء في الحسابات وإساءة التقدير أو تخترق بتطورات مفاجئة، خاصة أن ثمة مراكز قوى متشددة عند الطرفين تدفع في اتجاه الحرب، لكن الصحيح أيضاً والأكثر خطورة حين تغدو تلك الاستفزازات الإيرانية جزءاً من سياسة الهروب إلى الأمام التي دأبت الأنظمة الاستبدادية على اتباعها للالتفاف على أزماتها المزمنة، في رهان مغامر لزعماء طهران على استدراج الولايات المتحدة إلى حرب محدودة، يسهل توظيفها في البيئة الإيرانية، لرفع شعبيتهم داخليا، وتعزيز موقفهم الاستراتيجي خارجيا، بما يمكنهم من تحميل مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية، التي ستتفاقم بسبب العقوبات والفساد والفشل السياسي، للتهديدات والمعارك الخارجية، الأمر الذي يشجع على القول إن القادة وصناع القرار في طهران، والذين يضعون هدف البقاء في سدة السلطة على رأس أولوياتهم، يسيرون ربما بخطوات مقصودة نحو المغامرة بخيار الحرب، خاصة عندما يغدو هذا الخيار أقل ضرراً عليهم من انهيار اقتصادي شامل قد يفكك دعائم سلطتهم ويهدد حكمهم المستمر منذ أربعين عاماً، وينهي، بضربة قاضية، جاذبية مشروعهم الإسلاموي الذي أوصلوه إلى طريق مسدودة على صعيد تنفيذ برامج تنموية تنهض بالإنسان مادياً وحقوقياً، وما يرجح هذا النهج أن حكام طهران أظهروا تشدداً ظاهراً ورفضاً لكل المبادرات التي تدعو إلى التهدئة، ورفعوا شعارهم بأنه لا تفاوض في ظل العقوبات المفروضة، فكيف الحال حين لم يكلفوا أنفسهم عناء الرد الإعلامي لنفي الاندفاعات العدوانية العسكرية التي اتهموا بها، بل سارعوا على العكس، إلى التغني بإسقاط الطائرة الأميركية المسيّرة، على أنه نصر مبين على الصقر العالمي الذي تكسرت أجنحته عند سواحلهم... كذا؟!
واستدراكاً، ربما ينجح مؤقتاً التصعيد الإيراني المغامر في الخروج من الخناق المفروض عليه عبر ابتزاز العالم بخلق أزمة كبيرة تهدد استقراره، وربما تتمكن رعونة قيادة طهران من تحجيم الشروط الأميركية المتعلقة بالحد من بناء قدراتها النووية العسكرية والصاروخية، أو التي تطالب بالتوقف عن توسيع النفوذ الإقليمي ونشر الفوضى والحروب في المنطقة، لكنها لن تغدو استثناءً في التاريخ ولن تتمكن لأمد طويل من قلب الحقائق التي تؤكد أنه ليس من حياة واعدة ومستقرة لدولة تخل بالتوازن بين الطموح والقدرة الذاتية، وتذهب إلى مد نفوذها الخارجي بما يفوق طاقتها على الإدارة وتحمل التكاليف، وعلى حساب حاجات المجتمع ونهضته، بل ما ينتظرها هي حياة مليئة بالأزمات والتردي والمعاناة، لا خلاص منها إلا بتغيير هذا النهج، إما إرادياً جراء تحولات وصراعات داخلية، وإما غصباً وإكراهاً، عبر كسر عسكري خارجي، وكلنا يتذكر الحروب التي أنهت نظام صدام حسين، وقبلها التحولات السياسية التي فرضها تدهور الأوضاع الاقتصادية في الاتحاد السوفياتي وأفضت إلى تفكيكه.