نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

عباس وترمب... حوار القناة الخلفية

لم أكن موافقاً على القرار الفلسطيني بقطع العلاقات السياسية مع الولايات المتحدة، وما زلت غير موافق على اقتصار العلاقة مع إدارة ترمب على القناة الاستخبارية الـ«CIA».
وفي سياق التفسير الفلسطيني الصاخب والحاد لقطع العلاقة، وكذلك بعد سلسلة إجراءات أميركية فظيعة ضد الفلسطينيين، بدا مجرد الحديث عن علاقة سياسية مع الأميركيين كما لو أنه كبيرة الكبائر. فمن ذا الذي يقوى على تفسير استمرار علاقة مع إدارة أعلنت ومارست رزمة مواقف مست أسس الحقوق الفلسطينية (القدس واللاجئين وحق تقرير المصير)؟
ومع أن موقفي في هذا المجال ينتمي إلى الأقلية، فإنني أزداد اقتناعاً بسداده مع مرور الأيام. فـ«أميركا ترمب» الإشكالية مع أصدقائها وخصومها على السواء، تحتاج إلى مواجهة مباشرة يضع فيها الفلسطينيون والعرب أوراقهم على الطاولة، وليس من خلال قنوات خلفية أو بالمراسلة.
في أوج الخلاف الفلسطيني الأميركي الذي أسفر عن قطيعة سياسية وإجراءات انتقامية من الجانب الأميركي، توجهت بنصيحة للرئيس عباس بعدم قطع العلاقة المباشرة مع الرئيس الأميركي، فبوسعه إدامة العلاقة في ظل الاختلاف، والتمسك القوي بالموقف والحقوق دون أن يقدم أي تنازل؛ خصوصاً أن إدارات أميركية سبق أن أيّدت بل وتبنت الجزء الأهم من الحقوق الفلسطينية، وعنوانها الأبرز حل الدولتين.
كان بوسع عباس الذي أقر ترمب أخيراً بأنه رجل سلام، كما أقر - دون إعلان صريح - بأن رفض الفلسطينيين لخطته وخطواته كان له أبلغ الأثر في تعطيل مبادرته حتى الآن، وإلى أجل غير مسمى، كان بوسعه؛ بل كان واجباً عليه أن يعرض رؤيته لحتمية فشل خطة ترمب في مواجهة مباشرة معه، ليس فقط لأن الفلسطينيين لن يوافقوا عليها، على أهمية وأساسية ذلك؛ بل لأن الاعتبارات الأميركية التي هيأت لترمب حتمية النجاح كانت غير موضوعية، ولا أغالي لو وصفتها بالساذجة.
حجج الفلسطينيين في تحفظهم على «صفقة القرن» أقوى بكثير من حجج فريق ترمب في رهانه على النجاح؛ بل إنها - أي الحجج الفلسطينية - أثبتت صدقيتها تماماً على أرض الواقع، وذلك بعكس الحجج الأميركية التي لا تزال تراوح حتى الآن في مكانها، وليس من محصلة ملموسة لها إلا التأجيل ثم التأجيل ثم التأجيل.
اللافت، وقد دخلنا الآن السنة الثالثة أو على وشك، في زمن الانشغال بـ«صفقة القرن»، أن صناعها لا يؤجلون بحثاً عن عناصر توازن إيجابي يتعين وضعها أو تعديل النصوص على أساسها؛ بل إنها بمعظمها سُجلت كمراعاة للأجندة الإسرائيلية ومتطلباتها، وهذا أضاف عقبة جديدة أمام محاولات السلام، تتجسد في إغراء الإسرائيليين بمزيد من التشدد، وفتح شهيتهم لضم أراضٍ فلسطينية على نمط الجولان 2.
سلاح الرئيس عباس في أي لقاء محتمل مع ترمب هو الأقوى والأفعل، بعد أن ثبت عقم العمل الأميركي على مدى سنتين من الإعداد والتهيئة والتمهيد، فماذا بوسع ترمب أن يفعل كي يتفادى العقبة الفلسطينية؟... لا شيء.
يتخوف البعض من أن استئناف العلاقة المباشرة «السياسية» مع الأميركيين يعني منح شرعية لكل الإجراءات الأميركية التي تمت ومسّت جذور الحقوق الفلسطينية، وهذا استنتاج غير موضوعي وغير صحيح، فليس هكذا تكون الموافقات وتمنح الشرعيات، ذلك أن الرئيس عباس رجل السلام أو المحب للسلام، وفق آخر وصف ترمبي له، هو الوحيد من بين الفلسطينيين والعرب، وحتى على مستوى العالم، من يمتلك شرعية القبول والاعتراض، وربما يكون هذا هو سلاحه الأمضى والأفعل، وحين يعلن قبل أي لقاء فلسطيني أميركي أو بعده، أنه لن يضع توقيعه على أي وثيقة حل لا تتضمن الحقوق الوطنية الفلسطينية كما حددها الفلسطينيون، فهذا يكفي، ليس فقط لتأكيد الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف، وإنما أيضاً لإبعاد أي شبهة تشي بالتواطؤ أو حتى الموافقة غير المباشرة على «صفقة القرن».
كذلك، وربما يكون هذا هو الأهم، لم تعد كلمة «لا» لـ«صفقة القرن» وحدها كافية لاعتبار الصفقة كأنها لم تكن، أو وفق المصطلح المحبب لدى بعض وجهاء الطبقة السياسية الفلسطينية: «ولدت ميتة»، فصدقية الـ«لا» تتجسد في سلسلة إجراءات فلسطينية لا بد من اتخاذها على الفور: أولها ترميم الوضع الداخلي، وسد ثغرة الانقسام الكارثي، وعودة العمل للمؤسسات الوطنية الفلسطينية التي يجمع الفلسطينيون قبل غيرهم؛ بل وأكثر من غيرهم، على أنها أضحت مجرد عناوين بلا مضامين.
قد يعلن ترمب «صفقة القرن» بعد الانتخابات الإسرائيلية، وقد يؤجل الإعلان للمرة المائة، إلا أن الحقيقة الأهم من ذلك كله هي: ماذا يفعل الفلسطينيون بأنفسهم قبل الإعلان وبعده؟ وما هو برنامج عملهم والخطر على قضيتهم واقف خلف الباب؟