محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

الفيلم المناسب لمن لا يرغب

كنتُ ما زلتُ في الصفّ الرابع الثانوي، عندما بدأتُ الكتابة عن الأفلام. لا بد أنها كانت كتابات ضعيفة المستوى حينها، لأن السند الوحيد الذي اعتمدت عليه هو حب السينما لدرجة الشغف. لكن ضعفها، أو عدمه، وصغر سني لم يمنعا من منحي لقب «أستاذ» لدى سائقي سيارات «السرفيس» في بيروت، في أيامها المزدهرة قبل الحرب.
ذات يوم ركبتُ سيارة «سرفيس» من الموقف المعتاد (مقابل ربع ليرة) فرحّب بي السائق كالمعتاد أيضاً، ثم، وقبل وصولي إلى مفرق الحص بالقرب من دار الفتوى في محلة عائشة بكار، سألني: «شو بتنصحني شوف فيلم أستاذ محمد؟».
كواحد من الذين وعوا باكراً وجود سينماتين في الحياة؛ واحدة فنية والأخرى محض تجارية، أردتُ أن ألعب دوري كمنشّط للسينما الفنية، وصادف أن فيلم إنغمار برغمان (أعقد مخرجي عصره) الجديد «صرخات وهمسات» وصل للتو إلى إحدى دور العرض. فنصحته به.
لا بد أن الاسم رن في ذهنه... «صرخات وهمسات» عني بالنسبة إليه فيلماً من تلك التي كانت الرقابة تمررها بحذر أو تمنع.
بعد نحو أسبوع صادف أن ركبتُ معه، وقاد السيارة، وأخذ يقبض الأجرة من باقي الركاب. حين مددت يدي بربع الليرة تجاهلها، وقال: «بدي منك خمسين ليرة». دهشتُ وسألتُه السبب، فرفع صوته حتى يسمع باقي الركاب، وقال: «الأستاذ ناقد فني، وسألته في الأسبوع الماضي عن فيلم أشاهده، فنصحني بفيلم دخلته ولم أفهم منه شيئاً. بالنسبة لي كان فيلم (طلطاميس) أضاع لي وقتي».
ضحك بعض الركاب، وسأله أحدهم عن اسم الفيلم، في الوقت الذي بدأت أسأل نفسي كيف سأتصرف مع هذا الموقف. ذكر السائق اسم الفيلم، فإذا بشخص فوق الخمسين جالس وراءه ينبري للدفاع عني وعن اختياري، ويقول: «بس هيدا فيلم رائع. بعتك عليه لأنو فيلم يطرح مسائل فنية وفلسفية».
أجاب السائق بعفويته: «أنا ما بدي فيلم يطرح علي مسائل، بدي روح أتسلى ما أتعلم. عمقولك أستاذنا ما شفت إلا ناس عمتركض وحيطان فايتي ببواب... طلعت منو ما فهمان شي».
قال أحدهم لي: «كان لازم تنصحو بـ(خلي بالك من زوزو)». وسارع شخص آخر باقتراح فيلم «وسترن»: «هيدا الفيلم بياخذ العقل وبطله جون واين».
نظرت إلى الأستاذ الجالس في المقعد الخلفي وتبادلنا الابتسامة.
كانت يدي لا تزال ممدودة بربع الليرة. أخذها مني السائق مبتسماً معتقداً أنه أحرجني أمام باقي الركاب.