خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

أعداء الهوية الوطنية في الخارج والداخل

نعرف جميعاً أن وجهة الفرس، منذ القدم، السيطرة على المنطقة الممتدة من وجه إيران حتى منتهى بصرها عند حاجز البحر المتوسط. أضيف إلى هذه الوجهة - بعد الإسلام - الرغبة في السيطرة على المنطقة بما صار لديها من ثقل معنوي ديني. لكننا لا ننتبه أحياناً إلى البعد الآخر في الجغرافيا السياسية، لا ننتبه إلى الحديقة الخلفية. وهي في الحالة الإيرانية المجتمعات فارسية الثقافة واللغة والمذهب، بالتبعية، في أفغانستان وآسيا الوسطى.
إدراك الحديقة الخلفية يمكننا من فهم التحرك القطري الذي حرص الأمير تميم على حمله معه لدى لقائه بالرئيس الأميركي دونالد ترمب، لكي يقول له: ها أنا ذا، قادر على تقديم خدمات كبيرة لكم. لا أقصد بالتحرك توسيع قاعدة العديد التي قد تستخدمها القوات الأميركية في أي ضربات محتملة ضد إيران، إنما التحرك لتهدئة أفغانستان، باستضافة مباحثات لفصائلها السياسية، وبالتالي تحييد ورقة إيرانية في الحديقة الخلفية لها. تملك إيران السيطرة على ميليشيات شيعية أفغانية استخدمت ثلاثة آلاف مقاتل منها في الحرب في سوريا.
لكن ألا يخلق هذا حالة من التناقض في فهمنا لعلاقة قطر بإيران؟ ألا تتغزل قطر بعلاقتها بـ«الشريفة»، وتنحاز إليها في صراعها مع جيرانها العرب في الخليج؟
لكي نجيب عن السؤال يجب أن نبقى مع مفهوم «الحديقة الخلفية»، ولكن الحديقة الخلفية لتركيا هذه المرة. يؤسفني أن أنقل إليكم الحقيقة المحزنة: أن هذه المنطقة، الحوض الشرقي والجنوبي للمتوسط، كانت بالنسبة للروم الحديقة الخلفية، مخزن الغلال. وأن الوضع لم يختلف كثيراً حين حكم العثمانيون القسطنطينية. فقد قدموا أنفسهم على أنهم الورثة المسلمون للإمبراطورية البيزنطية. نحن حديقتهم الخلفية، مضاف إليها بلاد الحجاز لما لها من أهمية في السيطرة باسم الإسلام.
أربعة قرون يتعامل فيها هؤلاء مع هذه الحديقة الخلفية باستعلاء، ونهب للخيرات، لكي يحسنوا حياتهم هم، ويقووا مركزهم هم، لتحقيق حلمهم في الانتساب إلى وجهتهم - أوروبا.
الدور الأساسي لقطر في هذه المعادلة هو «ريس الأنفار» في الحديقة الخلفية، الذي يدير العمال من المماليك الجدد المتطوعين لخدمة السيد العثماني، والذي يجند المزيد لخدمة أغراضه. حين نفهم هذا لن يكون هناك تناقض بين أدوارها الأخرى. تنحاز مع إيران ضد العرب خدمة لغرض تغلغل تركيا إلى نفوذ الروم القديم في شرق المتوسط وجنوبه. كما كان الحال حتى 2011، ثم تنازع إيران النفوذ في الشام، وتكتشف أن «حزب الله» ميليشيا إرهابية بعد طول مودة ودعاية، حين يكون هذا لخدمة الغرض التركي نفسه، كما صار الحال من 2011 حتى 2014، ثم تعود لتنحاز مع إيران ضد العرب، حين يكون من مصلحتها تقوية ميليشيات إيران في جنوب الجزيرة العربية، وإضعاف الدول الوطنية الرافضة لـ«الإخوان العثمانيين»، والرافضة لمؤامرات سيطرة إسطنبول وعملائها على المنطقة.
كأن قطر الآن تضطلع تماماً بدور المملوك النموذجي إبان الحكم العثماني لبلادنا. بينما كان المملوك يستخدم مع أهل البلاد الترهيب فقط، كونه مسيطراً بالفعل، فإن قطر تستخدم المال أيضاً. تستخدمه في الترغيب لزيادة عدد هؤلاء الجدد المستعدين لخدمة هدف السيطرة العثمانية على الحديقة الخلفية. وتستخدمه في الترهيب بالإنفاق على الميليشيات التي تمسك الكرباج والبندقية والحزام الناسف والقنبلة. القطري جالس في ركن الحديقة يرتدي قفازات بيضاء، وملابس مهندمة، حتى لا تتسخ يداه. سيحتاج هذا المظهر حين يلتقي مع الرئيس ترمب، وغيره.
لكن، رغم كل الجهد خلال السنين العشرين الماضية، نرى المشروع العثماني يفشل، وجهود «ريس الأنفار» القطري تتلاشى جدواها شيئاً فشيئاً. أراد إردوغان أن يستخدمنا ثقلاً لكي يقدم نفسه لوجهته الأوروبية على أنه صاحب الباب العالي، ذو الحديقة الخلفية الشاسعة، فاكتشف الأوروبيون أننا نرفضه، فرفضوه. بدلاً من أن يستخدمنا دليلاً على نفوذه صرنا ننازعه. انهزمت أغراضه في سوريا. انقلبت في مصر. انتكست في السودان والقرن الأفريقي. وتهتز حالياً في ليبيا. عملاؤه مطاردون ترفضهم مجتمعاتهم واحداً بعد الآخر.
الاتحاد الأوروبي يفرض عليه عقوبات بسبب سلوكه مع قبرص. الولايات المتحدة و«الناتو» قد يعتبرانه «ثغرة أمنية» بسبب نظام الدفاع الصاروخي الروسي. اقتصاده يتراجع بعد أزماته المتكررة ومرشح لمزيد من التراجع. الداخل التركي يعلن عن تبرمه منه. يفقد الولاء داخل حزبه.
رفضُنا، بحزم، لأن نستسلم لغرض التمدد الفارسي المتخفي خلف شعارات مثالية. ولفظنا، بفطنة، لمؤامرات خبيثة من «الإخوان العثمانيين» لتوظيفنا حديقة خلفية للغرباء، كلاهما إنجاز جيوسياسي كبير خلال السنوات الماضية. لكنه لن يكتمل إلا بإنجاز ثقافي آخر في الجوهر من هذه القضية، هو معركة الهوية. الدولة في العصر الحديث دولة هوية وطنية، تجمع بين سكانها هوية المربع الجغرافي الذي يعيشون فيه ومصالحه. بهوية تتجاوز الدين والطائفة والنوع والجنس، لكي تحقق للجميع الإحساس بالكرامة والانتماء لبلدهم. ثم تتسع بالتجاور بين دول تحمل تلك الهويات الوطنية، التي يحترم أحدها الآخر، وتتعاون جميعها من أجل تنمية الأفراد وتحسين حياتهم. وكلها قيم حرص العملاء العثمانيون والفرس على تخريبها، وساعدهم على ذلك آخرون بلا وعي.
من هنا، فإن المشروع الوطني يبدأ بلفظ السيطرة والاستغلال، ولفظ عملائهم، لكنه لا يترسخ إلا بتدعيم الهوية الوطنية أساساً فكرياً لتحديد توجهاتنا المستقبلية.