ليونيد بيرشيدسكي
TT

«غاليليو» الملاحي... عيوب في النظام وأخطاء في الإدارة

توقف نظام غاليليو الملاحي الأوروبي عن العمل اعتباراً من 11 يوليو (تموز) الحالي. ويشير توقف النظام عن العمل، وهي أطول فترة للتوقف يشهدها النظام، إلى مدى صعوبة الابتعاد عن الاستعانة بالجيوش الأميركية والروسية والصينية من أجل توفير خدمات الملاحة الحيوية (والمربحة).
وأثناء كتابة هذا المقال، أدرج 24 قمراً صناعياً، تشكل في مجموعها نظام غاليليو الملاحي الأوروبي، على قائمة «غير صالحة للاستخدام»، وذلك على موقع النظام الإلكتروني. ولم يتم الإعلان عن أي إطار زمني يتعلق بعودة الأقمار الصناعية، والنظام بأسره، إلى العمل مرة أخرى، ولم يُفصح الموقع عن أي تفسير محدد ذي صلة بأي حادثة في البنية التحتية الأرضية للنظام.
وتشير تقارير «نظام الأقمار الصناعية الملاحي العالمي» إلى أن المشكلة وقعت فيما يُعرف بـ«منشأة الوقت المنضبط»، والهدف منها توليد وتوزيع الوقت (باستخدام الساعات الذرية) على نظام غاليليو. وكان تصميم النظام يعتمد على التكرار؛ فهناك، في واقع الأمر، منشأتان للوقت المنضبط، إحداهما في ألمانيا والأخرى في إيطاليا. ووفقاً إلى التقارير الصناعية الحديثة، يبدو أنهما خارج نطاق الخدمة في الآونة الراهنة.
ومن غير المتوقع لنظام غاليليو الملاحي أن يعمل بصورة مثالية حتى الآن. فهو لا يزال في مرحلة «الخدمات الأولية»، ومن المتوقع أن يعمل بكامل طاقته في وقت لاحق من العام الحالي. ومن المثير للقلق، رغم كل شيء، أن هذا الانقطاع الكبير عن العمل قد وقع في مرحلة متأخرة للغاية من تطوير النظام الذي استغرق عقدين كاملين من الزمن مع تكلفة بلغت 13 مليار يورو (14.6 مليار دولار).
وكانت الفكرة الكبيرة وراء تصميم نظام غاليليو هي توفير أول نظام عالمي للملاحة تحت الإدارة المدنية. كافة النظم المنافسة الأخرى - النظام العالمي لتحديد المواقع في الولايات المتحدة، ونظام (غلوناس) في روسيا، ونظام (بايدو) في الصين - هي تحت سيطرة جيوش بلادها. والغرض الرئيسي من وراء هذه النظم هو ضمان استمرار عمل الخدمات اللوجيستية ونظم الأسلحة إن خرج نظام القوى العظمى المنافسة عن العمل. وعلى العكس من ذلك، يهدف نظام غاليليو في المقام الأول إلى حيازة المكاسب الاقتصادية الهائلة للملاحة عبر الأقمار الصناعية.
وفي الولايات المتحدة وحدها، ووفقاً للتقديرات الأخيرة، حقق النظام العالمي لتحديد المواقع ما مجموعه 1.4 تريليون دولار من المكاسب الاقتصادية (بأسعار الدولار لعام 2017) منذ أن صار متاحاً للاستخدامات المدنية اعتباراً من ثمانينات القرن العشرين. ووفقاً إلى وكالة الفضاء الأوروبية، تعتمد نسبة 7 في المائة من الناتج الاقتصادي الأوروبي على الملاحة عبر الأقمار الصناعية، وكلما كان تحديد المواقع أكثر انضباطاً ودقة، ارتفعت المكاسب المتعلقة بالنقل، والطاقة، والزراعة، واقتصاد التطبيقات الإلكترونية. وهذا هو السبب في تطوير اليابان والهند كوكبة من الأقمار الصناعية التي ليست لديها مخططات لتوفير التغطية العالمية وإنما هي مصممة لتحسين دقة النظام العالمي لتحديد المواقع على المستوى المحلي في البلد المعني.
وأحدث نظام غاليليو، حال عمله، تغييراً كبيراً من حيث الدقة، فهو أحدث من النظام العالمي لتحديد المواقع المعروف. وتعزيز الدعم لكوكبة الأقمار الصناعية الأوروبية بجهاز من المستوى الصناعي قد أسفر عن تحسين دقة تحديد المواقع بنسبة تصل إلى 30 في المائة، مقارنة بالنظام العالمي لتحديد المواقع، وبنسبة تصل إلى 11 في المائة، مقارنة بمجموعة «جي بي إس» - (غلوناس).
ومع أن أغلب القوى العظمى تحركت صوب التقليل من اعتمادها على النظام العالمي لتحديد المواقع خلال العقدين الماضيين، إلا أن الميزة القوية للنظام المتمركز في الولايات المتحدة أنه موثوق به للغاية على مستوى العالم. ولم تخرج كوكبة الأقمار الصناعية الخاصة بنظام «جي بي إس» الأميركي عن العمل على الإطلاق، وإنما يكون التوقف مؤقتاً لبضع ساعات في كل مرة بغية إجراء بعض عمليات الصيانة على الخدمة كي تعود للعمل بكل سلاسة.
ولا يمكن سحب نفس التوصيف على نظام «غلوناس» الروسي، الذي خلال العام الجاري، كان النظام الوحيد بكوكبته من الأقمار الصناعية الذي يوفر خدمات التغطية العالمية. ولقد عانى النظام الروسي من انقطاع تام للخدمة لمدة 11 ساعة في عام 2014 نظراً لاكتشاف خلل في برمجيات التشغيل، ويعاني النظام حالياً من المشاكل ذات الصلة بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا. وتشير التقارير إلى أن 40 في المائة من مكونات النظام الروسي غربية المنشأ، ولم تكن أوروبا أو الولايات المتحدة على استعداد لتزويد روسيا بتقنيات ذات استخدام مدني وعسكري مزدوج منذ قيامها بغزو أوكرانيا. وفي الشهر الماضي، أوقفت الحكومة الروسية التمويل اللازم لصيانة والمحافظة على نظام «غلوناس»، وأعادت توجيه الأموال المخصصة إلى محاولة تطوير التقنيات المحلية لتحل محل ما كانت الحكومة تستورده سابقاً.
على صعيد النظام الصيني «بايدو»، أعلنت إدارة النظام في وقت سابق من العام الحالي أنه يعمل على خدمات التغطية العالمية. وأطلق النظام العديد من الأقمار الصناعية بأكثر من النظم الأخرى مجتمعة خلال السنوات الأخيرة، وكان يحظى بسمعة طيبة للغاية حتى الآن. لكن بالنسبة إلى الجانب الأوروبي، فإن الاعتماد على النظامين الملاحيين الأميركي والصيني ليس بالأمر الباعث على الارتياح أبداً. وهذا بالضبط ما سوف تواجهه أوروبا قريباً، إن استمرت معاناة نظام غاليليو الملاحي من المشاكل التقنية والفنية الكبيرة كمثل التي يعاني النظام منها حالياً.
بمجرد إصلاح انقطاع الخدمة في النظام الأوروبي، تحتاج وكالة الفضاء الأوروبية مع المفوضية الأوروبية، المشاركة في إدارة نظام غاليليو الملاحي، إلى النهوض والوقوف على أوجه الخلل والعيوب في النظام، فضلاً عن أخطاء الإدارة التي أسفرت عن وقوع المشكلة بالأساس.
هناك ميزات معتبرة في الإدارة المدنية للنظم الملاحية الدولية، والعالم في حاجة إلى توفر الخدمات غير المكرسة بالأساس لتلبية الأهداف والأغراض العسكرية. ولكن هذا لا يعني أبداً تشغيل الخدمات المهمة بأسلوب إدارة شركات خدمات الإنترنت المنزلية، ومطالبة العملاء بالانتظار إلى أجل غير مسمى حتى إصلاح المشكلة غير المعروفة، بل على العكس، ينبغي أن يعني الأمر مزيداً من الشفافية والتحديثات المستمرة في الوقت المناسب لضمان استمرار الخدمات. وخلافاً لذلك، فإن الكلمات المنمقة بشأن فقدان أوروبا طريقها على هذا المسار تستحق معانيها بكل تأكيد.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»