داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

إيران: في انتظار «الذي يأتي»

حاولت إيران خلال الشهرين الأخيرين شدّ قميص الولايات المتحدة، عبر استفزازات يومية، سواء بالتصريحات النارية الفارغة من قبل المسؤولين الحكوميين وقادة حرس الثورة والمرشد نفسه، أو بالتحرش بسفن تجارية وموانئ خليجية وطائرة استطلاع أميركية حديثة، أو حتى محاولة تسلل ناقلة نفط إيرانية عبر مضيق جبل طارق إلى أحد الموانئ السورية.
تسعى طهران في ذلك إلى اختبار فعالية الخط الأحمر الذي لوّح به الرئيس الأميركي دونالد ترمب مراراً، إذا ما حاولت إرباك حركة الملاحة الدولية، سواء في مضيق هرمز أو في باب المندب أو الموانئ والمنشآت البحرية، أو حتى القواعد الأميركية القريبة، والسفارة الأميركية في المنطقة الخضراء في بغداد.
حتى الآن يمكن القول إن إيران نجحت في الاختبار. والدليل على ذلك أنها فعلت ما تشاء من دون أن يتغير الخط الأخضر إلى خط أحمر. يبدو أن هناك خطاً أصفر لم ينتبه إليه أحد! فالنظام الإيراني يفعل ما يشاء ساعة ما يشاء، ويجلس أمام التلفزيون وبيده خرطوم «الشيشة» في انتظار تغريدة جديدة للرئيس الأميركي حول استعداده للتفاوض مع الإيرانيين من دون شروط. ما الذي جرى؟
واشنطن تتبع خطى لندن وبرلين وباريس في «ضرورة» إعادة إيران إلى بيت الطاعة المسمى «الاتفاق النووي». والرئيس الأميركي يقول: «أنا غير مستعجل»! فالعقوبات الاقتصادية ستؤتي ثمارها. طهران تشتري الوقت مجاناً، وهي تسابق الزمن لإنتاج القنبلة النووية، وعندها قد تلجأ الولايات المتحدة إلى قرية «بانمونجوم» لإجراء مفاوضات بين طرفين يمتلكان السلاح النووي، كما حدث بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. وبدلاً من أن تتفاوض واشنطن مع طهران على أسلحتها المحظورة، ستتفاوض حول شروط قبول إيران في النادي النووي الدولي.
غير أن العقوبات الاقتصادية ضد الأنظمة المركزية قد لا تجدي. فالعراق - مثلاً - تعرض إلى حصار جائر من عام 1990 إلى عام 2003، أشد حبكة وحنكة، من دون أن يغير مواقع أقدامه شبراً واحداً. ولولا الثقل الهجومي العدواني الأميركي غير المتكافئ مع الواقع الدفاعي العراقي المتهالك، لما حَدث ما حَدث، ولما دخل إيراني واحد إلى بغداد.
كل ما يفعله نظام ملالي إيران هو إبعاد نظر «الأعداء» عن أصل المشكلة. وقد نجح في أن يدفع الموقف الأميركي - مثلاً - للتواري خلف موضوع يحجب الرؤية، وهو «العودة إلى المفاوضات» بلا شروط. وتردّ طهران: لا عودة قبل تراجع أميركا عن العقوبات. وأميركا ترفض ذلك ما لم تقبل طهران بالعودة إلى المفاوضات. ودخل المتبرعون من مجموعة «الكشافة» من دول الاتحاد الأوروبي لتفسير النيات وتوقعها، وتجهيز سيارات الإسعاف لإنقاذ إيران من الورطة.
لقد لعبت دول الاتحاد الأوروبي دوراً انتهازياً إلى حد ما مع إيران، إذا ما قارنا دورها السابق مع العراق. ولم يتوان الرئيس الفرنسي الحالي في لعب دور «الوسيط» مع علمه الكامل بأن طهران تورمت بما فيه الكفاية، وتحولت إلى دولة متغطرسة ومتغولة وعدوانية، لا تجدي معها أقراص التهدئة وعروض الرحمة والنافذة المفتوحة.
الذي يقرأ تصريحات محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، في نيويورك وغيرها من العواصم، يظن أن إيران هي الدولة الضحية التي ينبغي جمع التبرعات والنصائح والتبريكات لإنقاذها من «الاعتداء» على سفنها «السياحية»، وموانئها «التجارية»، ومفاعلاتها النووية «السلمية»، وميليشياتها المسلحة «الوديعة»، وتدخلها «البريء» في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة والبحرين وأفغانستان.
بالفارسي الفصيح: النظام الإيراني نظام شرير ومارق وخارج عن القانون الدولي، ويـُطبـّـق على أراضي كل تلك الدول نظريات استعمارية عتيقة، تصورنا أنها صارت جزءاً من التاريخ الأسود لدول الاستعمار القديمة.
فالسفير الإيراني في بغداد يلعب دور «المندوب السامي البريطاني» الذي قرأنا عنه في روايات مُنقبة الآثار البريطانية المس بيل، التي كانت في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي تقرر مصير العراق الملكي. وهذا السفير المتغطرس لم يدع وزارة سيادية واحدة في العراق دون أن يزورها، ويفرض طلبات بلاده عليها، متجاهلاً أن الباب الشرعي الوحيد أمام أي سفير في أي بلد هو باب وزارة الخارجية؛ بل إنه يقوم بزيارات ميدانية لدوائر وزارة الداخلية ومعسكرات الجيش العراقي في المحافظات، في الوقت الذي لا يسمح له فيه النظام الإيراني نفسه بدخول مقر صغير لحرس الثورة الإيراني في بلده، لأنه لا يقع ضمن اختصاصاته!
وهذا الأمر ليس شاذاً داخل إيران نفسها، فمن حق الملالي وحدهم التدخل في شؤون إيران، عملاً بتوجيهات وصلاحيات ولاية الفقيه. ويتعامل الملالي مع الوزراء في بلادهم كأنهم موظفون تحت سيطرتهم. وهذا هو واقع الحال من رئيس الوزراء إلى كل الوزراء، وبضمنهم وزير الخارجية الذي ينفي اليوم ما صرح به أمس.
إيران فقدت توازنها تماماً، ولم تعد دولة حريصة على القانون الدولي وحرية الملاحة البحرية، وعدم الاعتداء على دول الجوار أو التدخل في شؤونها. وبعد أن كنا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي نصف شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي بأنه «شرطي الخليج»، نصّب المرشد الإيراني نفسه «حكمدار» المنطقة، والمخلوق الوحيد الذي يملك «تذاكر» الدخول إلى الجنة!
من الآن إلى أن ينضب شحن كومبيوتر تغريدات الرئيس الأميركي ترمب، فيتوقف عن تغريداته وتهديداته «العاطفية» التي يتصور أنها سياسية، علينا أن نتوقع كل شيء من دولة الشرّ التي لا تريد السلام لها ولا لغيرها.
على أي حال، نحن جالسون في المقهى في انتظار «الذي يأتي ولا يأتي» كما قال الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي.