سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

محل الخزف الذي يندفع فيه إردوغان

إذا خلا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى نفسه هذه الأيام، فأغلب الظن أن سؤالاً سوف يتردد في أعماقه بقوة كأنه رجع الصدى، وسوف يكون السؤال كالتالي: ماذا وصل بي إلى هنا؟!
وسوف يكون السؤال تعبيراً في حقيقته عن حالة فريدة من نوعها، لم يحدث أن وجد إردوغان نفسه في القلب منها، لا وقت أن كان على رأس الحكومة لسنوات زادت على العقد من الزمان، ولا في سنوات أخرى سبقتها كان فيها عمدة على رأس إسطنبول.
الآن، يكتشف في لحظة من لحظات الصدق مع النفس، وهي عنده قليلة على كل حال، أنه صار يتطلع إلى الجميع من حوله على أنهم أعداء، أو على الأقل خصوم، إلى أن يثبت في حقهم العكس. أما المزعج حقاً في معالم هذه الحالة الفريدة، فهو أن الرجل يتطلع إلى الكل بالعين نفسها، فلا يفرق بين الداخل في بلده، وبين الخارج الذي يمتد بامتداد العالم.
ولو أنه أنصف نفسه، لأدرك أن نقطة البداية التي وصلت به إلى هنا، كانت تقريباً من عند محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت عليه في 15 يوليو (تموز) 2016، فمن بعدها انقلب إلى إردوغان الذي لم يعرفه أحد قبلها، ومن بعدها راح يضرب في كل اتجاه، بغير أن يميز بين عدو وبين صديق، ومن بعدها أيضاً راح يرى في كل مواطن تركي، عضواً فاعلاً في حركة «خدمة» التي يتزعمها فتح الله غولن، أو متعاطفاً معها في أقل القليل. من بعدها راح يرى ذلك ويعبر عنه في كل تصرفاته وقراراته ويتمسك بما يراه، فلا يكاد يبرئ أحداً بين الأتراك من العلاقة المخفية بالحركة، ومن الاتصال برئيسها في منفاه الأميركي الاختياري.
وقد وصل الأمر على مستوى الداخل إلى حد أن وزارة العدل التركية أعلنت في ربيع هذا العام، أن عدد الذين جرى توقيفهم أو التحقيق معهم بعد المحاولة، وصل إلى نصف مليون شخص. وقد كانت التهمة ولا تزال، أنهم على صلة بحركة غولن، التي خططت للانقلاب في تقدير إردوغان ووقفت وراءه، ولم تتوقف ماكينة الاتهام بعد، وليس من الظاهر أنها ستتوقف في المستقبل القريب، فلا تزال تدور وتلتهم الكثير من المتهمين الجدد في كل صباح، ولا تزال عاجزة عن إطفاء جوع الرجل في هذا الاتجاه.
هذه حالة دخل إليها مندفعاً في اليوم التالي لفشل المحاولة، ثم لم ينجح في التخلص منها بعد، وليس من الواضح أنه سينجو منها بسهولة، فهو يبدو غارقاً فيها، وكأنه قد جرى استدراجه إلى الوسط من دوامة تدور وتدور، ثم تسحبه إلى عمقها كلما زادت في الدوران.
وفي تقرير نشرت «الشرق الأوسط» بعض تفاصيله في صدر صفحتها الأولى صباح الاثنين، ذكر حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية، أن 46 تركياً ممن جرى اعتقالهم على خلفية العلاقة مع جماعة غولن، ومع محاولة الانقلاب بالتالي، قد انتحروا في السجون.
وقبل يومين، اعتقلت السلطات 31 عسكرياً بينهم ضباط، وكانت التهمة الجاهزة هي التغلغل في الجيش بأفكار غولن، وكتب سيمون تيسدال في صحيفة «الغارديان» البريطانية يقول إن إردوغان يسير وحيداً في طريق مدمر نحو النهاية.
ولا يكتفي إردوغان بالذهاب بالجبهة الداخلية إلى هذا الحد من الاستقطاب، والتوتر، والتمزق، والالتهاب، فيذهب في ملعب الخارج إلى حالة من الخلاف مع الولايات المتحدة، تصل به إلى حدود من الشطط الذي لا يقف عند حد، وهو يفعل ذلك رغم تحالف قديم بين أنقرة وواشنطن، ورغم عضوية واحدة تجمع البلدين في حلف شمال الأطلسي، وهو يفعله رغم معرفته بأن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تستطيع لو أرادت في لحظة، أن تمسكه من يده التي توجعه، إذا ما قررت إعطاء مساحة من الحركة أمام غولن، المقيم لديها في ولاية بنسلفانيا من عشرين سنة بالتمام.
هو يخاصمها ويذهب في خصومته معها إلى حد اللامبالاة بعواقب الخصومة، فيحصل على صواريخ «إس 400» من روسيا، ولا يهتم بما إذا كانت واشنطن راضية أم غاضبة، ولا يعير إنذاراتها التي بعثت بها إليه إنذاراً وراء إنذار أي اهتمام، ويعتبرها كأنها لم تكن فيقول ما معناه، إن صفقة الصواريخ الروسية ماضية في طريقها إلى غايتها، وإنه لا تراجع عنها حتى ولو أسخطت عليه الأميركان.
وهو في مربع آخر من ملعب الخارج، كان من قبل يطرق باب الاتحاد الأوروبي في رفق، وكان ينتظر أمامه متوسلاً وراجياً، لعل مقر الاتحاد في بروكسل يرضى عنه وينفتح أمامه، وكان يستخدم اللغة الناعمة في خطابه وهو يطرق الباب، وكان لا يمل من معاودة الطرق من جديد، كلما وجد الطريق مقفلاً، وكان يعيش على أمل أن تصبح بلاده عضواً في الاتحاد ذات يوم، وكان يستخدم في هذا السبيل كل الأوراق، من أول ورقة اللاجئين السوريين، وصولاً إلى ورقة الإرهابيين في سوريا، وانتهاءً بغيرهما من الأوراق التي رآها ضاغطة على الاتحاد، ومؤدية به إلى فتح الباب.
ولكنه فجأة ألقى ذلك كله خلف ظهره، وأعلن أنه سيرسل سفينة رابعة للتنقيب في شرق المتوسط، بحثاً عن الغاز والنفط في المياه الاقتصادية لجمهورية قبرص، رغم تحذيرات الاتحاد الذي تتمتع قبرص بعضويته، ورغم تلويحات بعقوبات صدرت عن آخر اجتماع لوزراء الخارجية الأوروبيين في العاصمة البلجيكية.
وهو لا يعطي مواقف الغضب الصادرة عن الأوروبيين إزاءه اهتماماً من أي نوع، ولكنه يتمادى في عدم مبالاته إلى أن يصل لدرجة من اللامبالاة، يعلن فيها أنه لن يتردد في إرسال الجيش التركي إلى شرق المتوسط، دفاعاً عما يراه حقاً من حقوق تركيا في ثروات الموقع والمكان. وهو يستقبل على أرضه فايز السراج، رئيس ما يسمى بحكومة الوفاق الوطني في ليبيا، ويقرر إمداده بالسلاح في مواجهة الجيش الوطني الليبي، الذي يسعى منذ بداية أبريل (نيسان) الماضي إلى تطهير العاصمة طرابلس من الميليشيات.
وهو يعرف أن الجيش الوطني الليبي أسقط طائرة من دون طيار، كان السراج قد أطلقها عليه، فتبين أنها طائرة تركية، وأن أنقرة أمدت رئيس الحكومة بها، وأن الميليشيات التي تقاتل في طرابلس تستخدمها في الهجوم على جيش البلد، ورغم ذلك فإنه يتفق مع السراج خلال الزيارة على إمداده بأربع طائرات جديدة منها.
إردوغان يبدو منذ وقعت محاولة الانقلاب، كشخص اندفع غاضباً إلى محل خزف وفي يمينه عصا طويلة، وقد راح يضرب بها في كل اتجاه، دون أن ينتبه إلى أنه سيجد نفسه مضطراً إلى دفع تكلفة ما يحطمه في آخر المطاف، وأن أحداً آخر لن يحمل عنه ولن يتحمل فاتورة الحساب.