حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

سي الباجي... «عسلامة»!

مع قراءة هذه السطور يكون قد تم دفن جثمان الرئيس التونسي الراحل، وبدأت مراسم العزاء للفقيد الكبير. برحيل الرئيس الباجي قايد السبسي تكون قد فقدت تونس والعالم العربي قائداً «مدنياً» فذاً في وسط الأمواج الأصولية المتلاطمة التي تضرب المنطقة.
كان السياسي المخضرم والوطني الكبير والمدني حتى النخاع قد عاصر كافة المحطات المفصلية في تاريخ تونس بأحوالها وقادتها، وسيرته الذاتية المبهرة تشهد بنجاحاته في أحلك المهام والمناصب التي كلف بها خلال حياته. كان حقوقياً بامتياز، وبرع في المحاماة، كان حافظاً للقرآن ومتعمقاً في الدين، فهو من أسرة دينية تعمقت في روح الشريعة ومقاصدها، وهي فكرة رافقته طيلة حياته، وكان عبقرياً في مقارعة الحجة بالحجة، بارعاً في التواصل وبليغاً في لغته، وصاحب ابتسامة لا تغيب وحكمة لا تنام. آمن بالدولة وبالحكم المدني ومكانة القانون، ودور المؤسسات وحرص على حمايتها، وأن يكون الميزان الدقيق الحامي للدستور.
تعامل السبسي مع كل القوات والتوجهات لأجل إيجاد منطقة تعادل تتسع للجميع. كان «المدني» وقت كل التيارات «الثورية» ترفع شعارات عاطفية وجياشة تستغل فيها الدين والتاريخ للوصول إلى السلطة بأي ثمن، تدعمها دول تقدم لها المال وتسخّر لها الإعلام. وقت الأحداث العصيبة التي مرت على تونس، كانت «الجزيرة» تؤجج الشارع التونسي وتطالبه «برفض» كافة المقترحات الوسطية للحلول المدنية، وقتها قال أحد الدبلوماسيين المقربين من الراحل: «من المضحك أن قطر الدولة التي لا يوجد فيها انتخابات لمجالس إدارة الجمعيات الخيرية والكشافة فيها ينتمي إليها مرتزقة، تأتي لتعلم التوانسة عن الديمقراطية والوطنية وكأن المتحدث هو الحزب الديمقراطي السويدي أو حزب العمال البريطاني... هزلت».
كان بسيطاً وواثقاً من علمه وخبرته وتجربته ودينه. تسمى باسم أحد أولياء تونس الصالحين (أبو سعيد الباجي). أجداده من أصول إيطالية، من جزيرة صقلية تحديداً، حطوا الرحال في تونس واستقروا فيها منذ زمن بعيد جداً، تماماً مثل رفيق دربه زعيم الاستقلال التونسي الحبيب بورقيبة، الآتي من أصول ليبية وتحديداً من مصراتة، ولكنها تونس الخضراء تحتضن من يأتي إليها بلا تفرقة.
آمن تماماً بتكوين علاقة خاصة مع الجميع وأن يكون على مسافة واحدة مع «السلطان الأكبر» المسمى الموصوف لابن بلاده ابن خلدون في مقدمته الشهيرة من علم الاجتماع. كان قارئاً نهماً، مهتماً بالآداب والعلوم والدين. قرأ تفسير ابن عاشور، ومقدمة ابن خلدون، واستمع لعليا ولطفي بوشناق، وصابر الرباعي وناقش هشام جعيط فيما كتب، وضحك مع عادل إمام، وكرمه بمنحه أحد أرفع أوسمة تونس. حاور المفتي ورجال الأعمال ورجال النقابات والمحامين بذات الهدف، وهو النهوض بالدولة التونسية. تحسنت العملة التونسية في أواخر أيامه بأكثر من 18 في المائة، وحققت السياحة التونسية هذا الصيف أفضل معدلاتها منذ ثماني سنوات.
إذا كان الحبيب بورقيبة هو المجاهد الأكبر وبطل الاستقلال، فالباجي قايد السبسي هو المجتهد الأكبر وبطل الاستقرار.
سيفتقد التونسيون الباجي صاحب «الوهرة» الخاصة والطلعة البهية الباهية والابتسامة المطمئنة والكلمات المريحة.
ارقد بسلام أيها الرئيس النبيل... وعسلامة. و«إنا لله وإنا إليه راجعون».