خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

موقع العراق في العِبارة العابرة

«إيران تسيطر على أربع عواصم إقليمية» عبارة عابرة. تَرِد في وسط الحديث بلا سكتة قبلها، ولا نحيب بعدها. ولا إشارات حمراء تعطي فلاشات إنذار. ثم إنها تمر على أُذن السامع كأنها صارت أمر عادياً، معروفاً، مسلَّماً به، لا يستحق أن يكون له وزن في الرأي النهائي الناتج عن النقاش.
لكنها على أرض الواقع مأساة.
هذه الدول الأربع ممزقة أو تكاد. سوريا واليمن تعرفون أحوالهما. ولبنان على شفا جُرفٍ هار، يوشك أن ينهار به. أما العراق فمرشح بقوة لأن يدفع الفاتورة الكبرى في الصراع القادم مع إيران إنْ لم تنجح حكومته في السيطرة على سلوك الميليشيات المأمورة من طهران. والمهمة صعبة. وقبل ذلك كاشفة. تنذرنا بأن نرى في المستقبل ما فاتتنا رؤيته من أحداث التاريخ البعيد والقريب.
تنذرنا بأن نرى صعوداً متجدداً لصراع داخلي عراقي متكرر. تنذرنا بأن نرى لبنان سنة 19، لكن من القرن العشرين لا الحادي والعشرين. قبيل مشروع لبنان الكبير. تنذرنا بأن نرى صراعاً يقسم اليمن. تنذرنا بأن نرى تمدداً عثمانياً في سوريا. ما هذا التاريخ الدوار؟!
ثلاثة أحداث خلال الشهرين الماضيين تسترعي الانتباه والحذر. أولها ما ورد في الصحف الأميركية عن تقارير استخباراتية ترجح أن اعتداءً في شهر مايو (أيار) الماضي على خط أنابيب دولة عربية مجاورة ربما كان منشؤه جنوب العراق (وول ستريت جورنال 28 يونيو «حزيران» 2019). وثانيها هجوم استهدف المنطقة الخضراء في بغداد حيث تتمركز القوات الأميركية. وثالثها قصف استهدف موقعاً لميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق نفّذته «طائرة مجهولة». تمزيق العراق بين إيران والولايات المتحدة ليس في مصلحة العراق على الإطلاق. سيكون ساحة لصراع ما أغناه عنه. تماماً كالدول الثلاث الأخرى التي تسيطر طهران على قرارها وتضمها «العبارة العابرة».
المهمة صعبة أمام رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي. 120 ألف مقاتل يضمهم «الحشد الشعبي» ليسوا عدداً هيناً. والقرار الذي أمهل فيه قوات «الحشد الشعبي» حتى آخر يوليو (تموز) الجاري لكي تغلق مكاتبها وتنضم إلى القوات النظامية حان وقته، وسنرى مدى تأثيره. إحدى الميليشيات العراقية (كتائب حزب الله) تحدته، واعتبرت أنه يخدم المصالح الأميركية.
والحقيقة أن حياد العراق في الصراع بين إيران وأميركا لا يخدم سوى المصالح العراقية. العراقيون ينبغي ألا يحاربوا في صف أحد في صراع لا يخصهم، وإلا سيكررون مآسي سابقة في بلدهم، وحاضرة في البلاد الأخرى التي تضمها «العبارة العابرة».
من الممكن، حتى لو تطور الأمر إلى الصراع المسلح، العودة إلى الحلول الدبلوماسية في الخلافات بين الدول ذات المصلحة المباشرة التي تتحدث عنها بلسان نفسها... الخلاف سيبقى محصوراً بينها، والألم محسوساً لديها ودافعاً لمراجعة الحسابات. أما الأطراف التي تتطوع بأن تكون سيفاً في يد طرف، فلن يلتفت إليها أحد برأي، ولن يعرض عليها أحد منفعة. لن ينالها من المعركة إلا أسوأ ما فيها.
أما الانحياز السياسي من طرف عراقي في صراع خارجي فسينظر إليه بقية العراق على أنه خطوة تسعى إلى الاستقواء الداخلي، وسينقل الصراع من الخارج إلى الداخل. درس التاريخ الذي ينبغي ألا يمر علينا أبداً كـ«عبارة عابرة».
لقد صارت هذه العبارة العابرة العامل الأهم في تحديد الخيارات الاستراتيجية في المنطقة، متغلباً - في الواقع الميداني - على قضايا سياسية تقليدية كانت محور الاهتمام، ومربط التحالفات والاختلافات. يشكو البعض من هذه الحقيقة، لكنهم لا يسهمون في تغييرها، بل أسهموا ويسهمون في ترسيخها.
الفصائل الفلسطينية التي تعاونت على تمديد النفوذ الإيراني، الميليشيات التي نفّذت التوسع الإيراني، المجتمعات التي احتضنت النفوذ الإيراني، الدول التي ظنت أن قيامها بدور خنجر في غمد إيران سيجعل جيرانها مرعوبين من طعناتها المقبلة في خاصرتهم... كل هؤلاء يشكون الآن من تغير التوازنات. كل هؤلاء ينبغي ألا يلوموا إلا أنفسهم. على أنفسهم جنوا، وبأيديهم حفروا الكمائن.
أتمنى أن يدرك العراق هذا من المشاهدة ولا ينتظر المعاينة. العراق دفع خلال العقود الماضية نصيبه مضاعفاً من الشقاء والتقتير رغم الثروة التي ينعم بها البلد. لهذا سبب واحد أوحد وحيد؛ سوء القرارات السياسية في الماضي. الآن العراق في اختبار جديد.