د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

بوريس جونسون وتحدي التحالف الأوروبي ـ الأميركي

الجدل الدائر بين طرفي الأطلسي الأساسيين؛ أوروبا والولايات المتحدة، بشأن القوة البحرية التي ستُكلف حماية الممرات الملاحية في الخليج ومضيق هرمز وباب المندب، يطرح إشكالية حدود القدرة الأوروبية على التصرف الأحادي لحماية ما تعتبره بروكسل مصالح أوروبية لا شأن للولايات المتحدة بها. هذا الجدل امتداد لحالات سابقة اختلفت فيها رؤى واشنطن مع رؤى عدد كبير من القادة الأوروبيين، مما يؤثر على طبيعة التحالف تحت مظلة حلف الأطلسي من جهة، وطبيعة القيادة الأميركية للعالم والنظام الدولي من جهة أخرى، ما يشكل بدوره بداية لبلورة مفهوم مختلف أو صياغة جديدة للدور القيادي الأميركي، الذي اكتسب تاريخيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فاعليته بقبول أوروبا لتلك القيادة ودعمها في مواجهة المنافس الأكبر آنذاك، الاتحاد السوفياتي وصولاً إلى تفككه ومعه حلف وارسو نهاية ثمانينات القرن الماضي. وهو قبول استمر لعقدين آخرين، والآن نشهد تباعداً استدعى من قادة أوروبيين، كأنجيلا ميركل وإيمانويل ماكرون، أن يعلنوا صراحة أن على أوروبا أن تعتمد على نفسها لحماية نفسها، دافعهم في ذلك ما تمثله سياسات الرئيس ترمب من تحد كبير للتحالف الأوروبي الأميركي ووحدة أوروبا.
سياسات الرئيس ترمب لبقاء الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي تعبر عنها ثلاثة شعارات عامة؛ أولها أميركا أولاً، وثانياً أن أميركا لن تلعب دور شرطي العالم مجاناً، والثالث أن أميركا ستظل تقود وتوجه وعلى الحلفاء تحمل الأعباء. بيد أن التطبيق لكل هذه المحددات لا يسير على موجة واحدة، بل هو مُعرض للتبديل والتغيير حسب ما يراه الرئيس ترمب وإدارته محققاً للمصالح الأميركية على المدى البعيد. نشير هنا إلى حالتين بارزتين؛ الأولى الامتناع عن معاقبة تركيا بسبب شرائها منظومة الصواريخ الروسية إس 400، والاكتفاء بإخراج تركيا من مشروع الطائرة المقاتلة إف 35، بل محاولة إيجاد الأعذار لأنقرة لشرائها المنظومة الروسية باعتبار أنها تعرضت للظلم وسوء التصرف من إدارة الرئيس السابق باراك أوباما الكارثية، وفقاً لترمب. وفي هذه الحالة نلمح تعويلاً تركياً على علاقة شبه خاصة بين رئيسي البلدين ستحول دون توقيع عقوبات أميركية على أنقرة.
أما الحالة الثانية فتخص التقارب الفكري والسلوكي بين الرئيس ترمب ورئيس الوزراء البريطاني الجديد بوريس جونسون، وهو ما عكسته تصريحات الرئيس ترمب التي مدح فيها جونسون واعتبره مرشحاً ليكون رئيس وزراء قوياً وجيداً. وهو مديح كشف عن رهان الرئيس ترمب على انجذاب بريطاني أكبر لسياسات الرئيس ترمب تجاه الاتحاد الأوروبي المراد خلخلته، وحلف الأطلسي، والهجرة من بلدان مسلمة، والتنافس مع الصين، وما يعتبرانه خطراً روسياً على الغرب. وفي المقابل هناك الإعجاب الشخصي من جونسون بترمب كمثل يحتذى. هذا البعد الشخصي يفسر تقلب الموقف الأميركي تجاه مساعي بريطانيا لحماية سفنها في الخليج ومضيق هرمز. قبل أن يُنتخب بوريس جونسون رئيساً للوزراء كان هناك التصريح الشهير لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بأن على بريطانيا أن تحمي سفنها بنفسها، إذ واشنطن ليست معنية بما ستفعله لندن في هذا الأمر. ومع تولي جونسون صرح الرئيس ترمب بأنه سيرى كيف يساعد بريطانيا على حماية حرية الملاحة في الخليج.
لندن في ظل الأسابيع الأخيرة لرئاسة تيريزا ماي للحكومة البريطانية، وفي إدارتها لأزمة احتجاز إيران سفينة سويدية ترفع العلم البريطاني، طرحت على حلفائها الأوروبيين، رغم الاحتمال القوي بالخروج من الاتحاد الأوروبي، فكرة إنشاء قوة بحرية أوروبية بعيدة عن القيادة الأميركية وعن مشاركة حلف الناتو، لغرض حماية حرية الملاحة في الخليج. بريطانيا تدرك جيداً أن قدراتها البحرية لا تؤهلها للقيام بهذه المهمة وحدها، وتدرك أيضاً أن تلك المهمة تتطلب مشاركة من آخرين الأفضل أن يكونوا حلفاء لها أو يجتمعون معها على رؤى مشتركة، وليس أفضل من دول أوروبية لديها أيضاً مصلحة في حرية الملاحة في مضيق هرمز وفي الحفاظ على الاتفاق النووي الإيراني، والأفضل أيضاً أن تكون تلك المهمة تحت قيادة مشتركة مع آخرين، لمنحها قوة مادية ومعنوية، ولكى تكون المسؤولية ذات طابع جماعي لا بريطاني وحسب، ودون أن تكون تلك المهمة ذات صلة بالسياسة الأميركية الخاصة «بالعقوبات القصوى» على إيران، والتي يتحفظ عليها الأوروبيون كثيراً.
المسعى البريطاني ذو الطابع الأوروبي على هذا النحو يتصادم مع المشروع الأميركي المسمى «الحارس»، والذي يعني تحالفاً دولياً بقيادة أميركية، تقوم فيه البحرية الأميركية بمهام القيادة والسيطرة، وتقوم فيه البحريات الأخرى للدول المشاركة بمهام عملية كالدوريات البحرية ومرافقة السفن العابرة للخليج وللمضيق، وتسليم وتسلم مهام المراقبة في مراكز ونقاط بحرية محددة على مدار الساعة.
مع وجود بوريس جونسون على رأس الحكومة البريطانية، وتقاربه الفكري السياسي مع الرئيس ترمب، فالأرجح أن يتعدل موقف لندن تجاه مهمة حماية الملاحة في الخليج، وأن تتخلى عن فكرة القوة الأوروبية وتقبل المشاركة في قوة «الحارس» مع تعديل بسيط لبعض بنودها وقواعد الاشتباك التي سوف تعتمدها تلك القوة حال اكتمال إنشائها. في هذه الحالة أيضا سيكون على أوروبا، وتحديداً الدول التي عبرت عن موافقتها المبدئية للمشاركة في قوة بحرية أوروبية بقيادة أوروبية، أن تعيد النظر في مواقفها.
إذا سارت الأمور على هذا النحو المرجح، فستكون بريطانيا جونسون عنصراً محفزاً لأوروبا على الوقوف بصرامة أمام مطالب جونسون في إعادة التفاوض بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإذا حدث الخروج من دون اتفاق في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وما سيجره من مشكلات وعقبات للطرفين، وإذا رافقه مزيد من التعاون الخاص الأميركي البريطاني ممثلاً في اتفاقية تجارة حرة بين البلدين، كما يلمح إلى ذلك الرئيس ترمب كثيراً، وانغماس بريطاني أكبر في السياسة الأميركية الخاصة بإيران، فسيكون على أوروبا أن تفكر بصورة أكثر جدية في مطلب الاعتماد الأوروبي على الذات لحماية المشروع الأوروبي واستكمال قدراته الدفاعية الخاصة به، ما سيشكل لحلف الأطلسي معضلة بنيوية تتعلق بمدى التماسك الداخلي للحلف. ومع إضافة المأزق الخاص بتركيا بشأن منظومة إس 400 الروسية، ستصبح القيادة الأميركية للعالم على النحو السابق أمراً تاريخياً وليس مَعيشا.
السيناريو المرجح سابقاً لا يعد السيناريو الوحيد الممكن حدوثه، فمن المتصور أن تظل بريطانيا جونسون حريصة على روابطها الأمنية مع أوروبا بالقدر نفسه الذي تحافظ عليه تجاه الولايات المتحدة، وألا تندفع في سياسات الضغط الأقصى الأميركية. بيد أن المدخلات لهذا السيناريو ليست بقوة مدخلات سيناريو الانفصال وتعميق المشكلات الأمنية لأوروبا.