بعد أن أصبحت الطباعة شائعة في غير ما بلد أوروبي، وصارت هناك سوق واسعة للكتب بين الناس العاديين المتعطشين للقراءة خارج النصوص الدينيّة وكتب الصلوات، لم يكن غريباً أن رواية مثل «روبنسون كروزو»، بما فيها من مغامرات مشوّقة وغرائبيّات مدهشة، ألهبت فور صدورها عام 1719 خيال القرّاء، فذاع صيتها وتضاعف الطلّب عليها، حتى أنها طبعت أربع مرات قبل انقضاء ذلك العام.
ورغم انتشاء مؤلفها دانيال ديفو بذلك الاستقبال، وسعيه للبناء عليه، بإصدار جزء ثانٍ مكمّل، بل ولاحقاً جزء ثالث على شاكلة تأملات بشأن رحلات بطله «روبنسون كروزو»، فإن الرواية الأصليّة بدت وكأنها خرجت نهائياً عن سلطان ديفو، واكتسبت لنفسها حياة مستقلّة، فتعددت طرق قراءتها وتحليلها، وأُعيدت صياغتها على يد عدد لا نهائي من الكتّاب الآخرين، وألهمت أعمالاً كثيرة. والتحقت شخصيّة كروزو بروايات أخرى لاحقة كتبها مشاهير الأدب العالمي، بينما يصعب الآن حصر النتاجات السينمائيّة والتلفزيونيّة والإذاعيّة والموسيقيّة والغنائيّة والأدبيّة التي اقتبست عنها أو تأثرت بها في الفضاءات الفنيّة الموازية لعالم الرواية، ناهيك عن أكثر من مائة مليون نسخة تداولها القراء عبر الأجيال، بما في ذلك ترجمات إلى لغات العالم كلّه تقريباً، حتى صارت كناية عن نوع أدبي متكامل في أدب الرحلات والمغامرات، يُعرف بين المتخصصين بـ«الروبنسانيات». وقد كتب كثير من النقاد الأدبيين نصوصاً مطوّلة عنها، بعضها يدرس سيرة الرواية ذاتها بعد إطلاقها إلى وقتنا الراهن، بينما يبحث البعض الآخر في المصادر التاريخيّة أو الأدبيّة الممكنة التي ربما يكون ديفو قد استند إليها في صياغة روايته العتيدة. وبالطبع، فقد تعددت الرؤى والآراء حول الجانبين، لكن الإجماع قائم على أنها صارت ظاهرة عالميّة، وجزءاً لا يتجزأ من ذاكرة الكون الأدبي، ورائدة للأدب الواقعيّ، وواحدة من أهم الرّوايات الإنجليزيّة، إن لم تكن أهمها على الإطلاق؛ بل إن البعض يعدّها أول النصوص التي يمكن تصنيفها تحت اسم «الرواية» في الأدب الإنجليزي كلّه.
الرواية التي عنوانها الأصلي كما في الطبعة الأولى «حياة روبنسون كروزو»، البحّار المنحدر من مقاطعة يورك، ومغامراته الغريبة المدهشة خلال 28 عاماً عاشها على جزيرة مهجورة في الساحل الأميركي، بالقرب من مصب نهر أورينوج الكبير، إثر تحطم السفينة التي كان يستقلها، وبعد أن هلك جميع ركابها باستثنائه، مع سرد قصة إنقاذه التي لا تقل غرابة من قبل مجموعة قراصنة - دفعت بعض معاصريه إلى الاعتقاد بأنّ النصّ مذكرات سجلتها شخصيّة حقيقيّة، بينما اعتبرها آخرون مستندة إلى وقائع منشورة لحياة بحّار اسكوتلندي من تلك الفترة، يُدعى أليكسندر سيلكريك، عاش منعزلاً بالفعل لأربعة أعوام في جزيرة مقابل سواحل تشيلي (أميركا الجنوبيّة)؛ أعادت سلطات تشيلي تسميتها عام 1966 بجزيرة «روبنسون كروزو». ولعل مردّ ذلك أن فضاء الرواية وأحداثها وكأنها مرآة عاكسة للأجواء الفكريّة، وتصورات سكان الجزيرة البريطانيّة عن أنفسهم وعن العالم في المرحلة ما بين بدايات الاستعمار الأوروبي في القرن السادس عشر (بداية من رحلة كريستوفر كولمبوس 1492) والعصر الإمبراطوري الفيكتوري في القرن التاسع عشر (لغاية 1901). وتمجّد القصّة روح الفردانيّة، وحبّ التمرد والاستقلال عن سلطة الوالدين، بحثاً عن المغامرة في «مستعمرات» ما وراء البحار، وفيها نزعة دينية بروتستانيّة - بيورتانيّة ظاهرة، وتجارة عبيد يقودها المغاربة، وحكايات قراصنة إسبان وبرتغاليين وإنجليز، وتمردات ومؤامرات في قلب البحر، وشعوب محليّة بدائيّة متوحشّة، تتعاطى أكل لحم البشر ولا صلة لها بالحضارة، وهي تمتدح الدّور التنويري لهؤلاء المغامرين الشقر الأوائل في تحرير السكان الأصليين من جهلهم وتعاسة أقدارهم. ورغم أن هذه الثيمات تبدو أوروبيّة حصراً، فإن كثيرين اعتبروها إعادة سرد متأورب لرواية عربيّة كانت ترجمتها متوفرة حينها في إنجلترا، كتبها ابن طفيل القيسي الأندلسي في القرن الثاني عشر، واشتهرت باسم بطلها «حي بن يقظان»، وتنويعاً على مسألة الفرد مقابل المجتمع، وأصل الفطرة البشريّة قبل الحضارة.
ديفو رفض في حياته، وقد عاش 12 عاماً بعد نشر «روبنسون كروزو»، الإقرار بمصدر إلهامه، الأمر الذي تسبب بظهور مجموعة نقاد أدبيين تخصصت في التنقيب، كما علماء الآثار أو المحققين البوليسيين، عن نصوص متداولة كانت متوفرة قبل نشر الرواية عام 1719، ويمكن أن تكون مصادر كليّة أو جزئيّة لشخصياتها وأحداثها. ولعل أكثر كتب هؤلاء المنقبين إثارة هو «البحث عن روبنسون كروزو» (2002)، للناقد البريطاني تيم سيفيرين الذي يضيف إلى قائمة المُلهمين المحتملين شخصيّة هنري بيتمان، وهو بحار إنجليزي خاض تجربة مماثلة في مغامرات البحر، سجلّها لاحقاً كتابة، ودفعها للطبع ناشر بريطاني يدعى جون تايلور، تبيّن - بحسب سيفيرين - أن ابنه ويليام تايلور كان ناشر الطبعة الأولى من رواية ديفو!
على أن هذي النقاشات والبحوث بشأن مصادر إلهام الرواية - على أهميتها للبعض أقله - تتضاءل قيمتها مقابل القيمة الثقافيّة التي يحملها العمل، وفي ذلك انقسمت الآراء بين مدارس كثيرة، أولها أطلقه جان جاك روسّو، المفكر الفرنسي الشهير في كتابه «إميلي، أو عن التعليم» (1762)، وتبعه معنيون بالتعليم خاصة، معتبراً رواية ديفو وحدها من دون الكتب الأخرى ينبغي أن توفّر للناشئة قبل الـ12 عاماً، ربّما بعد تخليصها من بعد الأجزاء المتطرفة بعض الشيء، ليساعدهم على تحدي ذواتهم، وفتح آفاقهم نحو الاستقلالية والاعتماد على النفس. واعتبر آخرون أن الرّواية المتخمة بالرموز والإشارات الدينيّة ما هي إلا كتاب توجيهي تعليمي ديني لمؤلف شديد التديّن ترك عدّة كتب عن مفاهيم الخلاص والعيش الطهراني تردد المفاهيم ذاتها الموجودة فيها، ويذكرون في معرض تأييدهم لهذه القراءة حقيقة أن زميل ديفو على مقاعد الدراسة وصديقه - يدعى للمصادفة تيموثي كروزو - كان داعية متديناً وضع كتاب «الدّليل في الوصول إلى الله للناشئة» (1695)، وتوفي شاباً قبل نشر ديفو لمغامرات «كروزو» بثمانية أعوام. بينما اعتبر علماء اقتصاد، وعلى رأسهم كارل ماركس، أن الرّواية مثال ممتاز لفهم تطور الرأسماليّة الأولى، ونظريّات الإنتاج، وإمكان التجارة، كما دور مؤسسة العبوديّة كأداة الإمبرياليّة الكلاسيكيّة في تعظيم العوائد.
ومقابل هؤلاء، لحظ جيمس جويس، الروائي الآيرلندي المعروف، أن «روبنسون كروزو» تمثيل رمزي للإمبراطوريّة البريطانيّة بكل مثالبها، من نظرتها الفوقيّة العنصريّة تجاه سكان ما اعتبرته مستوطنات إلى صبغتها الأنجلوساكسونيّة المائلة إلى العنف اللاواعي، وطول الأناة، والبرود الجنسي، كما الأوهام الدينيّة المتأصلة.
ويسرد جويس أمثلة عدّة لتأكيد أنها في نصّها الأصلي توفّر قراءة ممكنة للعقل الاستعماري الأوروبي، ولفضاء تلك المرحلة الفكري والثقافيّ، فكروزو مثلاً يرى نفسه في غير مكان من الرواية (ملكاً) للجزيرة، وهو يشير لها بعد مغادرتها بـ«المستوطنة»، بينما العلاقة المحور بين كروزو وفرايدي (العبد الذي استرقه كروزو) هي وصف مباشر لعلاقة السادة - العبيد التي تحكمت - وربما ما زالت - بالنظرة الأوروبيّة لسكان البلاد الأصليين فيما وراء البحار، الذين هم بدائيّون متخلفون متوحشون، وخلاصهم ممكن إن هم اعتنقوا ديانة أسيادهم، وتعلموا لغتهم، وقبلوا دونيتهم أمام العرق السيّد الأبيض.
هي سخريّة القدر ربمّا! فالسيّد ديفو جمع بعض المال القليل من وراء «روبنسون كروزو» ومغامراته، قبل أن يمضي لقدره المحتوم، ليترك لنا كلّ هذا الجدل، وبطله البحار المتمرّد على سلطة الوالدين، ضحيّة القراصنة وشريكهم، المتديّن حدّ الهلوسة، الرأسمالي طليعة الاستعمار الأبيض، مسترق البشر الملونين، حياً يرزق لـ300 عام إلى الآن، فلا هو بعازم على الرّحيل في وقت قريب، ولا قيمه التي ما تزال رغم كل شيء معشعشة في الثقافة الجمعيّة للغربيين.
8:17 دقيقة
تمثيل رمزي للإمبراطوريّة البريطانيّة بكل مثالبها
https://aawsat.com/home/article/1838266/%D8%AA%D9%85%D8%AB%D9%8A%D9%84-%D8%B1%D9%85%D8%B2%D9%8A-%D9%84%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%A8%D9%83%D9%84-%D9%85%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%87%D8%A7
تمثيل رمزي للإمبراطوريّة البريطانيّة بكل مثالبها
300 عام على صدور رواية «روبنسون كروزو»
- لندن: ندى حطيط
- لندن: ندى حطيط
تمثيل رمزي للإمبراطوريّة البريطانيّة بكل مثالبها
مواضيع
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة