عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

جان دارك القرن الحادي والعشرين

مجرد مصادفة التكرار المضجر لظهور «علماء» التغيير المناخي في التلفزيونات، مؤكدين أن الشهر الماضي كان الأكثر حرارة في سجلات الأرصاد الجوية، التي بدأت منذ 137 عاماً، بينما عمر الإنسان مائتا ألف عام على الكوكب الذي يفوق عمره أربعة مليارات عام.
ومصادفة أن تسارع الحكومة البريطانية فور تكوينها بالالتزام بقرار إنقاص العادم الكربوني إلى الصفر في ثلاثين عاماً استجابة لضغوط نشطاء البيئة واللجان الدولية للتغيير المناخي التي تؤكد أن تسخين كوكب الأرض سببه الأول النشاط الإنساني الصناعي، بينما لم يقدّموا، حتى الآن، تفسيراً علمياً عن الكائن الحي المسؤول عن تغيرات مناخية أثبتتها الحفريات كالعصر الجليدي، أو التي سبقت ظهور الإنسان بملايين السنين.
ومصادفة تهليل في صناعة الرأي العام لأيقونة التغيير المناخي الجديدة «الأم غريتا» (على وزن الأم تريزا، راهبة الأعمال الخيرية الهندية الراحلة).
غريتا ثنبيرغ، التلميذة السويدية التي كانت قدوة مئات الآلاف من التلاميذ «للزوغان» من المدرسة مضحين بالتحصيل للجهاد في سبيل مكافحة التغيير المناخي.
أبحرت غريتا عبر الأطلسي في يخت شراعي مسالم للبيئة لتلقي محاضرة على أسماع الكبار في مؤتمر دولي بعد تركها المدرسة، بإذن أمها المغنية لأنها لا تزال دون سن الرشد.
القانون لا يسمح لغريتا بالزواج أو التدخين أو قيادة سيارة أو التصويت في الانتخابات وساعي البريد سيسألها: «مفيش حد كبير يوقع بتسلم الخطاب المسجل؟».
ألسنا في زمن غير عادي؟
الأزمنة غير العادية، عندما خر الكبار لتقصر قامتهم أمام طفلة (لا تعرف الصواب من الخطأ في نظر القانون) تعود إلى ما قبل عصري التنوير والنهضة في القرنين السابع عشر والخامس عشر، وقت أضفت ظلمات القرون الوسطى القدسية على قاصرات استجابة لما رأوه «معجزة» كشفاء الأمراض (قبل تفسير العلم مثلاً أن كهف ظهور معجزة الشفاء في جنوب فرنسا احتوت مياهه المعدنية ثاني أكسيد الهيدروجين القاتل لجراثيم المرض) أو استغلالها سياسياً، كما فعل الفرنسيون بجان دارك في حروبهم ضد الإنجليز.
لكن لماذا تلجأ المؤسستان السياسية والمسيطرة على صناعة الرأي العام، والطبقة المتوسطة في عصر ما بعد العلوم وبعد الهبوط على القمر بنصف قرن، إلى إعلاء شأن تلميذة لم تجتَز «أولى ثانوي» والتلهف على كلماتها كأنها صوت الحكمة بقدرات خارقة «كقديسات» القرون الوسطى؟
«إنه الاقتصاد يا غبي»، القول الشهير للمعلق الأميركي تيشستر جيمس الذي أدار الحملة الانتخابية الناجحة في 1992 للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون (1993 - 1999).
مصادفة أيضاً أن هذا الشهر (أغسطس/ آب) هو تقليدياً موسم شراء السيارات، حيث فيه يتم ثلث المبيعات سنوياً في بريطانيا، فهو بداية العام في رقم لوحة السيارة.
ومصادفة أن تتزايد حملة الدعاية لشراء سيارات المحركات الكهربائية بدلاً من محركات الاحتراق الداخلي التي أدارت وسائل النقل منذ سبعينات القرن التاسع عشر.
ونسمع أشعار استبدال صناعة «الطاقة الخضراء»، المتولدة من الطاقة الشمسية والرياح وحركة المد والجزر، بمولدات الطاقة التقليدية من فحم وزيت وغاز ومفاعلات نووية؛ وهي طاقة باهظة الثمن لسعر الكيلوواط ومتوسطها في أوروبا ثلاثة أضعاف ثمن توليدها من الغاز (أرقام مجلس إصدار لوائح الطاقة التابع للاتحاد الأوروبي)، إلى جانب حتمية وجود محطة توليد طاقة تعمل بالغاز بجانب محطات الطاقة الطبيعية المتجددة، والغلايات ساخنة والتوربينات دائرة احتمالاً لتوقف رياح توليد الكهرباء عن الهبوب أو لأسباب خارج تحكم البشر.
ونسمع أن «الطاقة الخضراء» وتدوير المنتجات وإنقاذ البشرية من «كارثة التغير المناخي» ستكون الثورة الصناعية الجديدة.
بداية الثورة الصناعية في إنجلترا في مطلع القرن الثامن عشر واكبت تطوير النظم الاقتصادية والمعاملات المالية وتعديل القوانين لتوسيع حرية السوق، المعروفة مجازاً «بالنظام الرأسمالي»، وما تبعه من مزيد من حرية الفرد والتعليم والرعاية الصحية - كأمر ضروري للابتكار والتصنيع وتشغيل المنشآت الإنتاجية والاستهلاكية وتطور النظام التمثيلي الديمقراطي مع الضرائب التي تمكن الحكومة من توفير الخدمات العامة.
فتح الأسواق الجديدة والاستعمار عبر التجارة بتصدير المصنوعات واستيراد المواد الخام، اعتمد وقتها على النقل البحري بالضرورة، وقاعدة الميزة النسبية (رخص السلعة في بلد لوفرتها وارتفاع ثمنها في بلد آخر لندرتها)، ورأينا الحروب على الموارد وعلى الأسواق أيضاً. وهي ملامح القرنين التاسع عشر والعشرين.
نجاح النظام الرأسمالي يؤدي إلى هدمه، فتقدم التكنولوجيا وإحلال الآلة محل العامل ورخص وسهولة وسائل النقل، كل ذلك أدى إلى وفرة السلع والمنتجات في كل مكان تقريباً، فالفلاح (الذي لا يزال يمشي حافياً) يحمل تكنولوجيا الآيفون، والأسواق تشبعت، والميكنة رفعت معدلات البطالة ومعها الهجرة غير المرغوبة والمتاعب الاجتماعية.
حروب القرن التاسع عشر لحماية مصالح اقتصادية لا تصلح لعصر المؤسسات متعددة الجنسية التي لا وطن لها.
في الثورة الصناعية قامر ملاك الأراضي بثرواتهم بتحويل المزارع المربحة إلى مناجم لاستخراج الفحم، ورهنوا ممتلكاتهم مع البنوك كضامن قروض بفوائد لتأمين رأسمال الاستثمار في المصانع.
الصناعات الخضراء الجديدة من سيمولها؟
الصنايعي الذي يحتاج سيارة لحمل أدواته، وسائق التاكسي وصاحب الورشة يرهقون بضرائب كربون يطالب بها الميسورون في وظائف القطاع العام والحكومة المريحة المضمونة من أبناء الطبقة المتوسطة، فتضطر الطبقة العاملة للتخلص من السيارة التي يجري «تدويرها» بصناعة أخرى مدعومة، بالاقتراض بالفوائد لشراء السيارات الجديدة الملائمة بيئياً.
زرع الشعور بالذنب في الضمائر بتحميلها المسؤولية عن التغيير المناخي يكفر عنه بالاستبدال بغلايات التدفئة المركزية والأجهزة الملوثة للبيئة أخرى جديدة تكنولوجية تحتاج لصيانة متكررة، وقبول دفع ضريبة البيئة على وقود التدفئة في الشتاء قاسي البرودة.
كيف تقنع الفقراء بدل الأرستقراطيين بتقديم «رأس المال» للثورة الصناعية هذه المرة؟
هنا تظهر الطفلة المعجزة، جان دارك القرن الحادي والعشرين، تحت أضواء مؤسسة صناعة الرأي العام على خشبة مسرح التغيير المناخي الذي وصل في الأوساط الليبرالية إلى مرحلة الإيمان العقائدي. ويوصف من يتساءل عن الأدلة العلمية بعبارات مماثلة لتكفير محاكم التفتيش في القرون الوسطى للخصوم.
تعطل المرور لأيام وسط لندن باحتلال «متمردي المناخ». حسناوات بنظارات الشمس الكارتييه وحقائب اليد الشانيل وأطفالهن دون العاشرة يبكون مرتعبين من زحف وحش المناخ الذي سيبتلع ألعابهم دون رحمة... وهستيريا ترحيب لم نرَ مثلها منذ الإغماء على المراهقات في حفلات البيتلز قبل هبوط آرمسترونغ على القمر، عند تلويح الطفلة المعجزة أميرة الجهاد بسيفها الوهمي في وجه التغيير المناخي.