حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

مساحة من النقد

يقول فيلسوف ألمانيا الأشهر إيمانويل كانط: «إن النقد هو أهم أداة بناء عرفها العقل الإنساني»، وهي مقولة بالغة العمق والدلالة والأهمية، فالمعنى البسيط الواضح لها أن الإنسان «غير كامل»، ولا يمكن أن يبلغ مستوى الكمال، وبالتالي ما يمكن فعله هو أن «يتقدم» أو «يتأخر» كما يقول القرآن الكريم؛ «وليس للإنسان إلا ما سعى». والتقدم هنا يعني الارتقاء، والذي يتحتم بموجبه إدراك الخلل والعيوب والعجز، والعمل الجاد على الخلاص منها، أو من معظمها على أقل تقدير.
ولا توجد أداة أكثر فاعلية للقيام بذلك مثل النقد، وهذا يشمل نقد الإنسان لذاتَه أو محيطَه المجتمعي أو وطنَه، وهو دليل قطعي الدلالة على عمق المحبة وأهمية وشائج الوصل بين الناقد ومن ينتقد.
أغلب ومعظم «المعارك» الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية تكمن في عدم الاستعداد لقبول مبدأ النقد، ومباشرة وضع المنتقد في تصنيف؛ يتأرجح بين الخيانة والتكفير والزندقة والعداء. ومع ضيق مساحة السماحة وتقلصها في تفكيرنا المعاصر، خرجت عاهات التشدد بكل أشكاله السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك رغم ارتفاع درجة قبول الآخر عموماً وسط الحضارات الإنسانية (مع الأخذ في الاعتبار الحالة العنصرية المرتفعة حالياً). إلا إن العالم لا يزال يسعد ويتمتع بأطول سلام في التاريخ المعاصر، وهو ما يشير إليه ستيفن بينكر في كتابه الرائع «أفضل الملائكة في طبيعتنا»، والذي يسرد فيه بالتفصيل الموثق كيف أن العالم هذه الأيام يعيش «أفضل» حالاته، ويوافقه الكاتب
غريغ إيستربروك في كتابه الجميل «إنه أفضل مما تراه» وفيه يناقش الأفكار نفسها.
هناك كثير من «المسلّمات» التي تم ترسيخها بقاعدة من التضييق الفكري لإلغاء الرأي الآخر بالتدريج حتى يصبح «مشكوكاً» فيه وضعيفاً... عبارات مثل: «هذا ما تم الاتفاق عليه»، أو عبارة: «ونال موافقة جمهور العلماء»؛ (من هم جمهور العلماء؟ كم نسبة الذين وافقوا؟ لا أحد يعلم). طبعاً هذه النوعية من الجمل لا يمكن أن يكون لها أي وزن علمي اليوم بوجود عوامل دقيقة للقياس فيما يخص نسب هذا «الجمهور».
هناك من حوّل فكرة النقد النبيلة وتجرأ عليها فخلق فكرة «الردح والردح الآخر» المعتمدة على الإهانة والسباب، ونمَت وأصبحت صناعة أكاذيب متكاملة. ولكننا اليوم نعيش تاريخاً لوسائط التواصل في ثوانٍ تمضي كلمح البصر... بالتواصل الذي بدأ برسوم ونقوش جدارية، قبل اختراع الأبجدية، ومن ثم اكتشاف الورق، وصولاً لاختراع الطباعة المثيرة على أيدي الألماني غوتنبرغ الذي أنقذ فكر مارتن لوثر عبر طباعة أفكاره وتوزيعها، وسمح بانتشار البروتستانتية فولدت ألمانيا وسويسرا وهولندا وأميركا وكندا كما نعرفها اليوم... ووصولاً أيضاً إلى الصحافة والإذاعة والتلفزيون والإنترنت، وهي المراحل التي يوصّفها كل من آسابريغر وبيتر برك في كتابهما المشوق «تاريخ اجتماعي لوسائط التواصل».
هذا الواقع يحتم علينا احترام العقل والعلم والمعلومة الموثقة، لأنه لم يعد أحد قادراً على احتكار المعلومة بشكل حصري، والحقيقة لا بد لها من أن تُعرف.
الجو الثقافي العام أصبح غريقاً في طوفانات مدح الذات والتفاخر الشديد، التي أصبحت تسود المشهد الرئيسي.
إذا لم نستطع أن نكاشف أنفسنا ونقبل، بثقة وسعة صدر وحسن ظن، «النقد»؛ فبالتالي يجب ألا نفاجأ إذا تطاول «السفهاء» علينا، لأننا سنكون قد سمحنا لهم.