داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

النَّصْب فوق سلالم الأمم المتحدة

من المعتاد أن تلجأ الدول والشعوب إلى الأمم المتحدة ومنظماتها لمساندتها في مطالبها أو حلّ مشكلاتها أو إنصافها أو وضع حد لأي عدوان عليها. لكن من غير المعتاد أن تلجأ الأمم المتحدة ومنظماتها إلى الدول والشعوب لحل مشكلات المنظمة الدولية. فقد استنجدت الأمم المتحدة بالرأي العام الدولي من عمليات النَّصْب والاحتيال باسم المنظمة الدولية ومجالسها وإداراتها المختلفة. وذكر تحذير أصدرته المنظمة وبثّته على موقعها الرسمي أن «ثمة مراسلات متنوعة تُعمم عن طريق البريد الإلكتروني ومن مواقع على شبكة الإنترنت أو البريد العادي أو الفاكس تدّعي زيفاً أنها صادرة عن الأمم المتحدة أو بالاشتراك معها أو مع موظفيها، ويُراد من عمليات الاحتيال هذه الحصول على المال أو معلومات شخصية من الذين يتلقون تلك المراسلات».
لا بد أن «حالات» الاحتيال والانتحال باسم الأمم المتحدة ازدادت وتنوعت ووصلت إلى حد «الظاهرة» بحيث دفعتها إلى التنبيه إلى أنها «لا تتقاضى أي رسم في أي مرحلة من مراحل التواصل معها، ولا تطلب أي معلومات متعلقة بالحسابات المصرفية أو أي معلومات شخصية». كما أنها «لا تقدم جوائز أو مكافآت أو أموالاً أو شهادات أو منحاً دراسية أو تُجري (يانصيب) عن طريق البريد الإلكتروني أو البريد العادي». حتى الآن فإن الأمم المتحدة تكتفي بهذه التوعية، ولم تصدر أي وثيقة رسمية أو بيان أو تصريح رسمي عن هذه «الظاهرة»، التي يمكن أن تشمل ما نقرأه في الصحف بين فترة وأخرى عن «تنصيب» شخصيات سياسية أو فنية «سفراء للنوايا الحسنة» من دون أن يكون للأمم المتحدة أي علم بذلك. وهي «عينة» مما يمكن أن تصل إليه النوايا غير الحسنة.
كانت مباحث الأموال العامة المصرية قد ضبطت محتالاً من رعايا إحدى الدول الأفريقية العام الماضي، لقيامه بانتحال صفة دبلوماسي في الأمم المتحدة وعضو في منظمة الصحة العالمية ومفوض من الأمم المتحدة لتمثيلها في الشرق الأوسط وأفريقيا، ويحمل استمارة مزورة صادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في القاهرة. ويتلخص نشاطه في النَّصْب على الأشخاص وبيعهم دولارات أميركية مزورة.
وتعد منظمة الأغذية والزراعة الدولية واحدة من أكثر المنظمات تعرضاً لهذا النوع من النَّصْب. وهي اضطرت إلى نشر تنبيه رسمي على موقعها الإلكتروني قالت فيه إنها «تدرك أنه يجري حالياً التداول بأشكال احتيالية من المراسلات عبر البريد الإلكتروني أو البريد العادي أو الفاكس بزعم أنها صادرة عن المنظمة أو المسؤولين فيها أو أنها ترتبط بها». وأخْلـَت المنظمة مسؤوليتها عن نتائج مثل هذه الرسائل المخادعة التي تحمل شعارها ورمزها. واستغل النصابون مغريات منظمة الأغذية والزراعة، وما لذّ وطاب من خيرات الله، فبدأوا ينصبون على الناس تارةً بتوفير فرص عمل مغرية في المنظمة، وتارةً ثانية بعقد مؤتمرات واجتماعات وهمية، وتارة ثالثة بإجراء سحب يانصيب وتقديم جوائز وشهادات مزورة. وكل ذلك في ظل تغطيات مالية من المتبرعين أو الساعين إلى مزيد من الوجاهة والأضواء تحت بدلات الدبلوماسيين الأنيقة حتى وإن كانت مستأجرة!
ووجدت المنظمة ضرورة نفي تقاضيها أي رسم بالنسبة إلى عقد الاجتماعات والمؤتمرات، أو إجرائها أي سحب يانصيب أو توزيع جوائز أو مبالغ مالية بواسطة البريد الإلكتروني. وأكدت المنظمة أنها لا تتقاضى أجراً مقابل تأمين فرص عمل إذا توفرت. وبعيداً عن اللهجة الدبلوماسية، عمدت منظمة الأغذية والزراعة الدولية إلى تأكيد أن هذه الرسائل والوسائل المخادعة التي تسعى إلى طلب المال أو الحصول على تفاصيل شخصية من متلقّي هذا النوع من الرسائل عبر البريد الإلكتروني هي في معظم الحالات رسائل احتيالية.
وما يلفت النظر أن هذه الرسائل والوثائق وعناوين البريد الإلكتروني والمواقع الإلكترونية التي تنتحل صفة منظمة الأغذية والزراعة الدولية، مُصممة ومُنفذة بعناية بحيث تبدو كأنها صادرة فعلاً عبر المنظمة. نحن هنا إزاء «عصابات» أو زُمر غير قانونية تستغل بعض أنشطة المنظمة لترويج مزاعم - مثلاً - عن أن برامج التوظيف في أميركا الشمالية تتم برعاية برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة الدولية، أو ادعاء أن برنامجها الخاص للأمن الغذائي تابع للمنظمة مع احتفاظه باستقلاليته الإدارية وأنه يُجري تعيينات نيابةً عن المنظمة الأم. وفي أحيان كثيرة تكررت عروض العمل أو الإعلانات عن وظائف شاغرة مقابل دفع رسوم، في حين أن المنظمة لا تتقاضى أي رسم في أي مرحلة من مراحل التوظيف من تقديم الطلبات وإجراء المقابلات الشخصية وتجهيز المعاملات الإدارية، أو التدريب على المهارات.
وأظهرت المنظمة العين الحمراء في مواجهة الاستخدام من دون ترخيص لشعارها أو رمزها أو اسمها وأن ذلك يعد استخداماً غير قانوني وسيجري إبلاغ السلطات المختصة بمثل هذه الممارسات لاتخاذ الإجراءات المناسبة. وفي الوقت نفسه حذرت المنظمة من الرسائل المشكوك فيها، حيث إن الاستجابة بإرسال مبالغ مالية أو معلومات شخصية لمن يرسلون هذه الرسائل الاحتيالية قد تؤدي إلى خسائر مالية أو سرقة المعلومات الشخصية مثل عنوان الإقامة ورقم الحساب الشخصي ورقم جواز السفر أو صورة مستنسخة منه.
بلا شك إن انتحال اسم منظمة دولية مثل منظمة الأغذية والزراعة أو اليونيسكو أو اليونيسيف أو الصحة أو الصليب الأحمر، أمر معقّد ويحتاج إلى خبرة و«موهبة» ولسان لا يتلعثم في المواقف المحرجة. إلا أن انتحال اسم شخصية دولية معروفة وعقد صفقات في موقعها الحكومي البارز أمر يحتاج إلى جرأة وقدرة على الإقناع. ولعل بين القراء من يتذكر واحدة من أكثر قضايا الاحتيال الدولي غرابةً، حين انتحل في عام 2015 محتال اسمه غيلبير شيكلي، وهو فرنسي – إسرائيلي من أصول تونسية شخصية وزير الدفاع الفرنسي السابق ووزير الخارجية الحالي جان إيف لودريان، الذي يحمل وسام «الصليب الأعظم» من الفئة الأولى للخدمات التي قدمها لجمهورية ألمانيا الاتحادية. وهو سبق أن حمل عناوين لافتة مثل «رئيس مؤتمر المناطق البحرية النائية في أوروبا» و«وزير الدولة للبحر». ومع ذلك لم يتردد أحد المحتالين في أن يرتدي قناعاً من السيليكون لوجه الوزير الفرنسي «ذات نفسه» كما يقول الأشقاء السودانيون! وقصة هذا المحتال تصلح لأن تكون فيلماً سينمائياً؛ إذ أوهم ضحاياه بأنه لودريان، وأنه يطلب منهم أموالاً لدفع «فدية» من أجل تحرير فرنسيين مختطفين في منطقة الشرق الأوسط، مركّزاً على أن يكون تحويلها محاطاً بأعلى درجات السرية لأن السياسة الفرنسية تمنع دفع «فدية» لتحرير رهائن فرنسيين. ولاستكمال إخراج الفيلم جهّز النصاب مكتباً مشابهاً في فخامته لمكتب الوزير ووضع عليه علم فرنسا وخلفه على الجدار صورة الرئيس الفرنسي - وقتها – فرنسوا هولاند، مع تخفيف الإنارة لضمان رؤية منخفضة تشوش على مَن يحادثونه عبر برنامج «سكايب» باعتباره الوزير المزعوم!
لكن الرئيس السنغالي ماكي سال، استطاع كشف الاحتيال، لأن المحتال غفل عن العلاقة الوطيدة بين سال ولودريان، ما جعل المحتال يخاطب الرئيس السنغالي بلغة التفخيم «أنتم، وحضرتكم»، وهي لغة لا يتخاطب بها الناس المقربون! النتيجة: أن المحتال يقبع الآن في أحد سجون فرنسا عقب القبض عليه في أوكرانيا!
حتى الآن لم يستطع أحد أن ينصب على الأمم المتحدة بشكل مؤذٍ. لكن المنظمة الدولية شهدت فضيحة فساد بملايين الدولارات خلال ولاية كوفي أنان الأمين العام الأسبق، نتيجة تورط مسؤولين كبار وشركات متعددة الجنسيات في تلقي رشى بالملايين في برنامج «النفط مقابل الغذاء والدواء» في تسعينات القرن الماضي خلال الحصار الاقتصادي الذي كان مفروضاً على العراق. وطالت الاتهامات المدير السابق للبرنامج القبرصي الجنسية بينون سيفان، ومدير المشتريات في البرنامج الروسي الجنسية ألكسندر ياكوفليف، الذي اعترف أمام القضاء الأميركي بتلقيه رشى بمئات الآلاف من الدولارات بشكل غير قانوني من شركات تسعى للحصول على عقود من الأمم المتحدة، وقد أنشأ ياكوفليف شركة خاصة لتسهيل الرشى وتلقي التحويلات على حسابات خاصة في سويسرا. واتهمت لجنةُ التحقيق الرئيسَ السابق لبرنامج «النفط مقابل الغذاء والدواء» بالحصول على عمولات تقرب من 150 ألف دولار نقلها له، كما قالت اللجنة، شقيق زوجة أحد الأمناء العامين السابقين للأمم المتحدة. وقد تصدت المنظمة الدولية للفضيحة بشجاعة فرفعت الحصانة الدبلوماسية عن المتهمين وقدم سيفان استقالته. وحاول البعض زج كوفي أنان نفسه في الفضيحة الدولية التي جرت على سلالم الأمم المتحدة بسبب عمل ابنه في إحدى الشركات المتهمة. لكن لم يثبت أن أنان كان يعلم بذلك.
انتهى الفيلم.