إميل أمين
كاتب مصري
TT

وئام الأديان وكرامة الإنسان

وسط زخم الأحداث السياسية وتطورات المشهد في الخليج العربي والشرق الأوسط، لم يتنبه الكثير منا إلى حدث فريد أحسنت كثيراً جداً رابطة العالم الإسلامي في الدعوة إليه وتبني انعقاده، ونعني به قمة «وئام الأديان»، التي انعقدت في العاصمة السريلانكية كولومبو، المدينة المكلومة التي شهدت تفجيرات عيد الفصح الماضي، التي راح ضحيتها الأبرياء من المصلين الآمنين صباح العيد الحزين.
اختيار رابطة العالم الإسلامي المكان أمر لا يخلو من إرادة طيبة خلاقة، وعقل واعٍ مبدع، وكلاهما لديه رسالة، وهي أن الأديان إنما جاءت من أجل صون كرامة الإنسان، وحقه في الحياة والنماء لا الموت والفناء، وإن كان الإرهاب الأعمى ومشاعر الكراهية والموت قد خيّل إليها أنهما كسبا جولة، فقد آن أوان العالم أن يقف بالمرصاد للمرجفين وأصحاب الفتن ليكسب الخير الحرب كلها، بجولاتها وصولاتها كافة.
أصبحت دور العبادة اليوم هدفاً للإرهاب والإرهابيين، وكأن هناك من يعمل في الخفاء لنشر سر الإثم عبر استهداف المصلين، فقد رأينا مجزرة في كرايستشيرش النيوزيلندية، راح ضحيتها مسلمون، وبعدها كانت كنائس سيرلانكا وما وقع داخلها من ضحايا، وفي الولايات المتحدة لم توفر الكراهية الحمقاء كنيساً يهودياً في ولاية كاليفورنيا، ومن قبله جرى هجوم على كنيس آخر في ولاية بنسلفانيا... هل من رابط يجمع هؤلاء جميعاً؟
إنها إرادة الخصام التي يسعى البعض لترويجها عوضاً عن حياة الوئام التي يتوجب أن تسود عالمنا، هذا إن أردنا الخلاص من أدران العالم المعاصر والجانب المظلم من العولمة الآثمة.
أهم ما نادت به وركزت عليه قمة «وئام الأديان»، وهو ما يتوجب السعي في طريقه في حاضرات أيامنا، هو تعميق عزيمة أهل الخير والمحبات لدى أتباع الأديان حول العالم، وهم في طريقهم لإيضاح الهدف الرئيسي للأديان، أي تجذير المحبة ونشر السلام وتوطيد الوئام.
في مداخلته عبر جلسات المؤتمر كان الرئيس السريلانكي يضع العالم بأجمعه أمام كارثة لا حادثة محدقة بالجميع شرقاً وغرباً، ومن غير أي مقدرة على الفكاك منها، إنها معضلة خطاب الكراهية، ذاك الذي بات يطير وينتشر عبر الأثير ويتنفسه البعض الآخر كالهواء، وعلى غير المصدق أن ينظر إلى الداخل الأميركي وما جرى خلال الأيام القليلة الماضية في كاليفورنيا وأوهايو، من إرهاب مجنون بعضه جرى برسم الصراع العرقي، وآخر نوعي، وقبلهما كان الصراع الديني، حين فتح أحد الإرهابيين اليمينيين البيض، نيران سلاحه الرشاش على كنيسة يؤمها الأميركيون من أصل أفريقي.
أي جنون يجتاح العالم، وهل هذا هو ثمن التقدم التقني للبشرية، في حين أخلاقياتها تذوب ومؤمنوها يصبحون عرضة لمدافع الجبناء والموتورين من الملحدين المعاصرين، الذين كفروا بالإنسان قبل الأديان؟
وضع الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد العيسى يده على مكامن الجرح البشري حين أشار إلى حقيقة مؤلمة، كان لا بد له من أن يصارح بها لا المجتمعين في القمة فقط، بل المؤسسات الأممية كافة، وهي أن هناك تساهلاً حصل تجاه السماح بترويج المواد الأولية للتطرف العنيف والإرهاب، ويأتي في مقدمتها خطاب الكراهية والعنصرية والاستعلاء المقيت على الآخرين بغطرسة الآيديولوجيا الدينية والعرقية.
خطاب الدكتور العيسى ينبهنا إلى إشكالية خطيرة، وهي الخلط بين حدود حرية الرأي وحدود خطاب الكراهية، فقد رفضت الكثير من دول العالم الوقوف صفاً وحداً عبر سنّ تشريعات واجبة الوجود تحرّم وتجرّم مثل تلك الخطابات، بدعوى أنها تحاصر الحق في إبداء الرأي وحرية الفكر، مع أن الأصل في تلك الحقوق هو تكريم الإنسان، وليس جعلها منصة للأسلحة الفتاكة التي تحرمه من حقه الأول في الحياة، والذي لا يمكن لأحد أن يسلبه منه، لكنها الازدواجية القاتلة في بعض الخطابات الرسمية الغربية بنوع خاص.
يحتاج عالمنا المعاصر إلى مبادرات إنسانية إبداعية وخلاقة.. مبادرات تبني الجسور وتهدم الجدران بين الأمم والشعوب والقبائل.. مبادرات تقرب من القلوب وتشعر الآخر بالتعاطف الصادق الإنساني والإيماني، الأصلي لا المزيف، الأمر الذي استشعره السريلانكيون بحق من مبادرة رابطة العالم الإسلامي، التي حاولت مساندة أشقاء في الإنسانية يمرون بلحظة هوان تسبب فيها الأشرار، وحاولت تعميق الجرح الذي أصاب كل السريلانكيين على حد سواء.
والشاهد، أنه حين يقوم الدكتور العيسى، الذي تتجلى فيه ملامح الإسلام السمح المتصالح مع الآخر، والمؤمن بفلسفة التعددية والحكمة الربانية من ورائها، بزيارة إلى كاردينال سيرلانكا وتطييب خاطره، فإن العالم برمته وليس السريلانكيون فقط يرون في الزيارة جسراً من المودات التي تعمر الأرض وتقيم عالماً صالحاً لأصحاب القلوب الطيبة، عالماً يتبادل فيه الواحد مع الآخر مشاعر التقدير، وعواطف المحبة، وتمتد فيه الأيادي بالتعاون المتبادل لا بالرصاص المهلك.
من جديد يأتي صوت جان بول سارتر فيلسوف الوجودية الأشهر بتعبيره المثير والخطير: «الآخرون هم الجحيم»... ليس هذا هو العالم الذي نتمناه... المحبة هي الأصل والكراهية هي الصورة المنحولة.