عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

شد الحبل بين لندن وبروكسل

زيارة بوريس جونسون الأولى رئيساً لوزراء المملكة المتحدة إلى برلين وباريس، تعتبر ناجحة كمرحلة تكتيكية في استراتيجية إيجاد مناخ يساعد زعماء أوروبا على التوصل إلى صفقة «بريكست»، مرضية للطرفين، لإتمام خروج البلاد في 67 يوماً.
في لعبة شد الحبل السياسة هناك أوراق بيد الزعيم البريطاني بوريس، الذي يتمتع بشعبية واسعة، فهو السياسي الوحيد الذي يعرفه الناخبون باسمه الأول بوريس، وليس بلقبه كالمعتاد، وأوراق أخرى بيد الفيدراليين الأوروبيين.
القرار النهائي، واقعياً، سيكون بالتنسيق بين الزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أما الباقون فليس أمامهم إلا الانسياق وراء خطة باريس وبرلين التي ستتبناها «المفوضية» كسياسة أوروبية «موحدة» تجاه العضو القديم، والخصم الحالي، بريطانيا.
ما يحدد استراتيجيتي الطرفين، هو الأهداف النهائية.
هدف باريس وبرلين المشترك منع خروج بريطانيا بإفشال مشروع «بريكست». وفي حالة خروج المملكة بلا اتفاق، ستعمل «المفوضية» على عرقلة الجهود البريطانية لعقد اتفاقيات تجارية ناجحة مع أطراف خارجية؛ بجانب تحميلها خسائر، غالباً سياسية، كعبرة لشعوب تطالب التيارات اليمينية فيها بإجراء استفتاء، خصوصاً أن هناك حكومات تتمرد على سياسات تعتبرها «المفوضية» كتاباً مقدساً لا يجب الخروج عنه. بينما تجد زعماء في إيطاليا والمجر مثلاً يمزقون صفحات الكتاب التي تتعارض مع سياسات وطنية كحصص توزيع المهاجرين.
هدف لندن بسيط لأنها تفكر بعقلية التاجر. بريطانيا بنت إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس بالتجارة، وليس بالآيديولوجية، وبالتالي تضع السياسة والدبلوماسية في خدمة التجارة.
الاتحاد الأوروبي، في المقابل، مشروع آيديولوجي يسعى نحو الوحدة الفيدرالية والتوسع شرقاً، وبروكسل توظف الاقتصاد والدبلوماسية كأدوات سياسية. هذا يجعل التعامل معقداً لصعوبة المزاوجة بين العقليتين.
العقلية التجارية طورت النظام الديمقراطي البريطاني إلى دوائر برلمانية أساسها الناخب الفردي، وخياره المصلحة الاقتصادية، بينما يحتقر الآيديولوجيات ويسخر منها.
أساسية لا تستوعبها ذهنية بيروقراطيي «المفوضية» غير المنتخبين. بلدان أوروبا، ومعظمها جمهوريات، تعتمد التمثيل النسبي (القوائم) الأقرب إلى الشمولية؛ فالأفراد فيه مجرد أرقام في كتلة انتخابية.
المعلقون الأوروبيون مثلاً يستخدمون كلمات «مشكلة» و«أزمة» عند بحث الاستفتاء البريطاني أو الجدل في مجلس العموم، المنقسم بطبيعته بين حكومة ومعارضة.
ماكرون اعترف، قبل انتخابه، أن الفرنسيين غالباً سيختارون «فريكست» لو أجري استفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي، يطالب به اليمين كمارين لوبان زعيمة «الجبهة القومية». ويبذل الزعيم الفرنسي أكبر الجهد لإبعاد فكرة الاستفتاء عن أذهان ناخبيه، خصوصاً مع تصاعد احتجاجات «السترات الصفراء»، التي تتجاهلها شبكات التلفزيون البريطانية، وكلها مع البقاء في الاتحاد الأوروبي.
ولذا بدا ماكرون أكثر تشدداً مع بريطانيا من المستشارة الألمانية، رغم تدهور الحالة الاقتصادية في بلاده مقارنة بألمانيا. لأن نجاح بريطانيا في الحصول على مطالبها بصفقة اقتصادية مع «بريكست» يضع ماكرون في موقف صعب، وهو ما يفسر تناقض موقفه كأكثر زعماء أوروبا تشدداً مع المصلحة الاقتصادية لبلاده التي ستكون الخاسر الأكبر حال الخروج بلا صفقة.
وجدت دراسة للحكومة البلجيكية عن العمالة أنه في حالة «بريكست بلا صفقة» ستفقد فرنسا 141 ألف وظيفة، بجانب 291 ألف وظيفة في ألمانيا و139 ألفاً في إيطاليا.
الشعب الألماني، وبسبب عقدة الحرب العالمية الثانية، يؤيد فكرة التماسك الأوروبي، واستمرار العلاقات الطيبة مع بريطانيا حتى بعد «بريكست». فمشروع الوحدة الأوروبية هو حلم المستشار الحديدي بسمارك وهو سيطرة ألمانيا على أوروبا، التي حققت بالاقتصاد ما لم تستطع تحقيقه بالحروب. لكن الاقتصاد الألماني ليس بالقوة التي كان عليها منذ عام.
دراسة وزارة المالية الفرنسية قدرت تكاليف «بريكست» بـ14 مليار يورو في فرنسا، و11 ملياراً في إيطاليا، بينما ستكلف ألمانيا 30 مليار يورو.
ولأن ألمانيا عادة تتحمل ديون الآخرين، فإن المستشارة الألمانية بدت أكثر مرونة من الزعيم الفرنسي. فإحدى أهم أوراق الضغط البريطانية غير المعلنة هي ربطها مبلغ 39 مليون جنيه إسترليني الذي تريده بروكسل بالتوصل إلى اتفاق أو الامتناع عن دفعه في حالة الخروج بلا صفقة. «المفوضية» لا تستطيع اللجوء للمحكمة الدولية للحصول على المبلغ تحت بنود «بروتوكول فيينا» لعام 1961 للمعاهدات الدولية المتعلقة بالدول، فالاتحاد الأوروبي لم يوقعه، لأنه ليس دولة معترفاً بها.
الورقة الوحيدة في يد بروكسل، التي يصر عليها الرئيس ماكرون القضية الوهمية المفتعلة، وهي الحدود بين آيرلندا الشمالية، وهي جزء من المملكة المتحدة، وآيرلندا الجنوبية، باستخدام رئيس وزرائها الجمهوري المتشدد ليو فارادكر كمخلب القط.
ديفيد دافيز الوزير السابق لشؤون الخروج من الاتحاد الأوروبي، قال الخميس إن المشاورات اليومية المستمرة منذ صيف 2016 بين موظفي الجمارك البريطانيين والآيرلنديين لترتيب مرور البضائع في كل سيناريوهات «بريكست» المحتملة توقفت فور تولي فاردكار الحكم في 2017.
جونسون كرر لماكرون ما قاله لفاردكار، تليفونياً، الثلاثاء، «نحن لن نقيم أي حدود... انصبوها أنتم لو أردتم». وهذا مأزق لدبلن وبروكسل.
الاتحاد الأوروبي ليست لديه قوات حرس حدود أو جيش لحماية حدود بين الآيرلنديتين، وعملياً لا يستطيع فاردكار وضع هذه الحدود، فهو جمهوري ينتمي لحركة توحيد الآيرلنديتين، ووضعه لحدود تفصلهما يضعه في صدام مع المتشددين.
آيرلندا هي البلد الوحيد من بين السبع وعشرين، الذي يميل ميزان مدفوعاته لصالح بريطانيا بمبلغ 25 مليار جنيه إسترليني فائض الصادرات البريطانية إليها. بينما الغالبية الساحقة من صادرات آيرلندا لأوروبا منتجات زراعية تتطلب قصر وقت الشحن. طريقها الأساسي بعبور الشاحنات البحر الآيرلندي إلى إنجلترا ومن موانئها الجنوبية إلى الموانئ الفرنسية والبلجيكية والألمانية. الرحلة تستغرق من 18 إلى 22 ساعة لتصل وسط أوروبا طازجة.
إذا أغلقت الحدود، ستتكلف آيرلندا مبالغ باهظة لبناء موانئ جديدة في الجنوب تستغرق سنوات، والرحلة ستطول إلى 28 إلى 32 ساعة.
المفوضية الأوروبية وماكرون يراهنان على ورقة ضعيفة، وهي إمكانية المدعي العام السابق دومنيك غريف، إقناع بضعة من نواب الحكومة بالانضمام لمناهضي «بريكست» عند عودة البرلمان من الإجازة، الأسبوع المقبل، وإيجاد آلية لتقييد يد الحكومة لتمديد البقاء في الاتحاد الأوروبي، أو ربما انضمامهم للمعارضة في تصويت سحب الثقة من الحكومة.
احتمال ضعيف لكنه ممكن.
السيناريو الأكثر احتمالاً أن فشل البقائيين في إسقاط حكومة جونسون، الشهر المقبل، سيقنع بروكسل في الأيام الأخيرة بقبول الأمر الواقع... وهو خروج بريطانيا في 31 أكتوبر (تشرين الأول) مع الاستمرار في الإجراءات العملية اليومية القائمة من حركة البضائع والسفر والطيران عبر عشرات وربما مئات من الاتفاقيات الصغيرة كبديل عن معاهدتي ماستريخت ولشبونة.