إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

وردة عطرة من الطائف

عندما قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز جملته القصيرة: «لن نعود إلى ما بعد 1979»، أظن أن كثيرين ممن لا يعرفون المملكة العربية السعودية جيداً لم يستوعبوا أبعادها بالكامل.
بما يخصّني، بين خريف 1977 وخريف 1978 عشت في المملكة، حيث عملت في المنطقة الشرقية وأحببتها وأحببت أهلها. ثم بين مطلع 1979 ومنتصف ذلك العام عشت وعملت في المنطقة الغربية وتكرّرت تلك التجربة الجميلة في أيام ما عُرف بـ«الفورة».
بعد ذلك، التحقت بـ«الشرق الأوسط»، حيث أتيحت لي متابعة أخبار المجتمع السعودي والاحتكاك بأصدقاء وإعلاميين ورجال أعمال وأهل رأي على صلة بالمملكة لثلاثة عقود ونيف. ولكن، هنا علي الاعتراف بأنني طيلة هذه الفترة، التي توصف اليوم بفترة «الصحوة»، تابعت التطوّرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في المملكة عن بُعد جغرافي... جغرافي فقط.
هذه المرحلة انتهت في عام 2013 عندما زُرت الرياض لأول مرة منذ 1977. وفي العام التالي، زُرت جدة والمدينة المنورة، وتوالت زياراتي للمملكة منذ ذلك الحين، وكانت أحدثها قبل أسبوعين لمدينتي الطائف وجدة.
لن أخوض في تجربة «الصحوة»، أولاً لأنني لم أعشها مباشرة، وثانياً لأنني أعتبر أن لدى المواطن السعودي من النضج والوعي ما يؤهله - أكثر منّي - لتحليل ظواهرها الاجتماعية ومؤثّراتها الثقافية في مناخ إقليمي مسموم بفعل «تصدير الثورة الخمينية». ولا حاجة لشرح ما حملته هذه «الثورة» من مزايدات، وتشويه، وعدوانية، ونكوص عن التعايش والانفتاح، وتهديد لحسن الجوار.
هذا المناخ الذي عمَّمته «الموجة» الخمينية كان لا بدَّ أن يستثير ردّات فعل معاكسة، من طينة مشابهة، خلال حقبة زمنية شهدت إعادة رسم الأولويات السياسية في الشرق الأوسط، وفي العالم بأسره.
في الشرق الأوسط، كان العالم العربي يعيش تداعيات كامب ديفيد ونَزْف لبنان، والعالم الإسلامي يرقب استنزاف «الجيش الأحمر» في أفغانستان. أما في العالم الأرحب فقد تضافرت جهود الريغانية في أميركا والثاتشرية في أوروبا لتضييق الخناق على الاتحاد السوفياتي... تمهيداً للإجهاز عليه خلال عقد من الزمن.
حتماً، لا يمكن تحميل جهة واحدة تبعات حالة عالمية. غير أن النتائج السلبية سرعان ما أخذت تظهر، وبلغت شفير الهاوية مع هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. عند هذا المفصل دخل عالم الأحادية القطبية معادلة جديدة. وبين غزو هنا، وحرب طائفية هناك، سقطت المُسلَّمات وتبدلت الاعتبارات واهتزَّت التحالفات وانكشفت هشاشة البدائل الآيديولوجية.
علاج الصدمة، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، استهلك نفسه. والبديل الديني الذي ركب موجة القضاء على الشيوعية وصل بدوره إلى نهاية الطريق عندما استعاد القوميون والشعبويون العنصريون صوتَهم ضد زحف مارد «العولمة». حتى الدول التي بناها المهاجرون انقلبت على حرية الهجرة.
في العالم العربي، أيضاً، وجد «الإسلام السياسي» نفسَه في موقع مماثل لذلك الذي عاشته القومية، فالليبرالية، ثم الاشتراكية والعسكرة. اكتشف الشباب العربي أن التحديات لا تتحقق بالوعود والأحلام، والهروب إلى الدين كملجأ ليائسين بدلاً من أن يكون هدى ونوراً يشجع التعقّل والفكر البنّاء.
الواقعية السياسية باتت تقتضي إدراك الحاجات المُلحة للتنمية، وتنويع الموارد الاقتصادية، وبناء المؤسسات... عبر التعلُّم من تجارب الآخرين. ومن ثم، إدراك أنه ما عاد ممكناً الإصرار على العيش في جزيرة ثقافية بعدما غدا العالم قرية كونية.
في المملكة العربية السعودية، كما دول عربية أخرى، طاقات شبابية ومادية وحضارية غنيَّة تنتظر استثمارها في هذا العالم الذي يفرض علينا أن نجيد لغته ونعرف كيف نواجه تحدياته. وهذا الاستثمار يشكل حقاً العودة إلى الوضع الطبيعي... إلى ما قبل 1979.
بالأمس، عندما عُدت من الطائف، حيث سعدت بحضور «موسم الطائف» وفعالياته المنوّعة، فإنني عدت بشعور عزَّز ما شعرت به في آخر زياراتي للرياض، وكذلك ما شاهدته في المدينة المنورة، مدينة وإمارة... وصولاً إلى العُلا.
في كل لقاء ومع كل حوار لمستُ شعوراً عميقاً بالتفاؤل والثقة بالنفس والقدرة على تحقيق أي شيء.
شبانٌ وشابات يعملون في مختلف المرافق، كلهم تقريباً يحملون شهادات جامعية عالية. سائق متطوع رافقني في تجوالي في الطائف... يحمل درجة جامعية في الهندسة.
الشباب والشابات في «قرية ورد» خلية نحل... يشرحون ويحاورون بحماسة ودراية ملهِمتين. الاستعراضات غاية في الذوق، والحضور الكثيف للجنسين شهادة للتفاعل الاجتماعي الصحّي، والإيمان بالمستقبل.
وداخل معرض للوحات في «مهرجان ولي العهد للهجن»، شَرحتْ لي الخلفيات بدقَّةٍ وبلاغة شابة لامعة أنهت تعليمها الجامعي في الولايات المتحدة. أما الشاب الذي رافقني خلال تجوالي في حديقة المهرجان فكان يتحدَّث بحرارة تشعرك أنه مشروعه الخاص. أبهرني تزاوج التكنولوجيا مع التقاليد والتراث. وأعجبني توثيق بيانات الهجن عبر زرع شرائح إلكترونية تضمُّ أنسابَها وهوية مالكيها ومختلف المعلومات الضرورية عنها، ما يعني تحويل هذا التراث إلى «صناعة» عالمية تشارك فيها اليوم أستراليا وبضع دول آسيوية!
سوق عكاظ لم تفاجئني، وإن كانت أكثر إبهاراً مما توقّعت. وهنا أيضاً لفتتني حماسة الناس، عاملين وزواراً. وكانت قمة التجربة لقائي مع المشرفة العامة، الطاقة الشابة التي تختصر كل ما هو إيجابي في التنظيم والطموح والاهتمام بأدقِّ التفاصيل. إذ بادرتني عندما رحبت بي في مكتبها «أهلاً بك أستاذ إياد، ولكن اسمح لي أن أسمعَ منك انتقاداتِك قبل أي إطراء».
أما في جدة، فالتقيت بأصدقاء وزملاء إعلاميين أعزاء. واستقللت سيارة إحدى الزميلات كانت تقودها بنفسها. الأمر عادي، والثقة بالنفس واضحة في كل مكان.
كل ما شاهدته ولمسته ذكَّرني بعبارة سمعتها في دبي قبل أكثر من 15 سنة.
يومذاك قال مسؤول في دولة الإمارات عندما سأله زميل خليجي أدهشه تقدُّم دبي: «لا يا أخي. نحن لا نخاف إلا من الله ومن الخوف نفسه. نحن لن نقفَ حيث نحن، فنرفض الانفتاح خوفاً من السلبيات. السلبيات نعالجها بحزم عبر القانون، لكننا لن نسمح للخوف بتكبيلنا».
هذه هي الإيجابية الرائعة التي لمستها في الطائف. إنها الوردة الأجمل التي حملتها معي من وردها العطر.