حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

... وإلاّ فَعَلَى الدولة اللبنانية و«الحكم القوي» السلام!

وهو مسترسل في خطابه استهدفت مسيّرة «مجهولة» موقعاً لـ«الحشد الشعبي» العراقي قرب «القائم» على الحدود مع سوريا، فقُتل القائد الميداني أبو علي الدبي عضو كتائب «حزب الله» العراقي، ورغم تأكيد زعيم «حزب الله» تولي مهمة الدفاع عن الأجواء اللبنانية، وتمّ بعد ساعات استهداف مواقع الجبهة الشعبية – القيادة العامة في قوسايا شرق البقاع. ولمن لا يعلم كانت طاولة الحوار اللبناني قد أقرت في عام 2006 نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وأحبط ذلك لاحقاً «حزب الله» لأن مجموعة جبريل الأمنية هذه تابعة للنظام السوري!
صحيح أن العدو الصلف تباهى بالغارات التي نفذها جنوب دمشق، وقال إنه استهدف موقعاً لـ«فيلق القدس» وأحبط خطة استهداف الداخل الإسرائيلي بطائرات مسيّرة، وكشف نصر الله في خطابه أن المستهدف كان فقط شقة سكنية يرتاح فيها عناصر من الحزب سقط إثنان منهم هما حسن زبيب وياسر ضاهر وكلاهما خريج جامعة «الإمام الحسين» في طهران اختصاص هندسة طيران، فإن الثابت وجود بصمات العدو على الضربات الجوية من العراق إلى الضاحية الجنوبية وتلال قوسايا في البقاع وطبعاً سوريا، ويبدو أن العدو ماضٍ في نهج تصعيدي غير آبهٍ بتحذيرات قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الذي كتب على «تويتر» أن «هذه العمليات المجنونة» هي آخر معارك إسرائيل.
تحذير نصر الله للإسرائيليين من أن نتنياهو يخوض بالدم العربي انتخابات الكنيست، وأنه سيتسبب في حرمان الإسرائيليين من الأمان والاستقرار، تحذير واضح، ومعروف أن خيارات نتنياهو محدودة؛ إما يعود رئيساً لوزراء دولة العدو وإما يُساق إلى السجن بتهم فسادٍ محكمة. وبالفعل ندد أخصامه بمسارعته استخدام هذه العمليات في المنافسة الانتخابية، ومحاولته إقناع الناخبين بأنه رجل الأمن رقم واحد، متقدماً منافسيه من الجنرالات. لكن يبقى ذلك جانباً من خلفية المشهد، فالصورة أكبر بكثير وتعبّر عن استراتيجية كاملة.
ما يجري من استهداف لأذرع «الحرس الثوري» في العراق وسوريا ولبنان، في عواصم ثلاث من العواصم الأربع التي تتباهى طهران بالسيطرة عليها، هو الوجه الآخر للعقوبات الأميركية والحصار المفروض على النظام الإيراني، تماماً كما أكد ذلك الإعلامي عبد الرحمن الراشد في «الشرق الأوسط» بتاريخ 26 الجاري. والجهة التي وضعت هذه الاستراتيجية التي تحرج حكام طهران انطلقت من أن النظام الإيراني بين حدين، أولهما أن الرضوخ للعقوبات والحصار والانهيار هو النتيجة الحتمية، وأمام الملء ما آل إليه وضع ناقلة النفط «داريا 1» التي جابت المتوسط ولم يستقبلها أي مرفأ فاتخذت وجهة قناة السويس للعودة من حيث أتت... والآخر البحث عن صفقة تنقذ النظام الإيراني، مع ثمن ما، أبعد من النووي ربما يطال السلاح الباليستي وبعض النفوذ الإقليمي. وعندما يُدعى محمد جواد ظريف إلى بياريتز حيث تنعقد قمة السبع، لن تصدر عن طهران إلاّ مواقف التهدئة لأن التصعيد يعرّض رهانها على دور أوروبي للاهتزاز.
هنا نفتح مزدوجين لطرح سؤال الناس القلقة عما إذا كان خطاب التصعيد سيقتصر على اللهجة الخطابية، أم أن لبنان مرشح ليكون مجدداً ضحية سياسة «لو كنت أعلم»؟ يعرف كل الناس أن «المقاومة» ورقة مهمة في خدمة الأجندة السياسية لحكام طهران ومشاريعهم، وما شهده لبنان يوم الأحد غداة الاعتداء الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية والخرق السافر للقرار الدولي 1701، مريب ومهين، فبعد أن ساد مشهد انكفاء سلطة الدولة، وبرزت قناعة أن موقف البلد سيعبِّر عنه مساءً نصر الله في احتفال حزبه بالذكرى الثانية لحرب الجرود، وهي الحرب التي مُنع الجيش من الاحتفاء بها. قال الأمين العام إن حزبه لن يسمح بخرق «قواعد الاشتباك» التي تأسست بعد حرب يوليو (تموز)، لأن ذلك سيؤسس لمسار خطير من الاستباحة الإسرائيلية، وإنه «انتهى الزمان الغابر الذي كانت تأتي فيه طائرة إسرائيلية وتقصف في لبنان ويبقى مكان هادئ في الكيان الغاصب»... واستطرد: «سنرد على القتل في لبنان (...) وليس من مزارع شبعا»!
واضح جداً أن العمل العسكري (أياً كان شكله وحجمه) لم يعد مستبعداً فـ«حزب الله» بعد عشرات الضربات في سوريا والوصول إلى مربعه الأمني سيسعى إلى ترميم وضعيته أمام جمهوره وأمام من أسلس له القياد، وهو كان واضحاً في التأكيد أن بين يديه «قرار الحرب والسلم»، وإن ترك الباب موارباً عندما ردد مراراً كلاماً عن «حدود الحكمة والمسؤولية»، ما قد يعني رغبة في عمل ما مؤثر، لكن أقل من حرب، مع العلم أنه مع العدو يستحيل التحكم لمن الطلقة الأخيرة وبالتالي يستحيل التحكم في الهاوية التي يُدفع إليها البلد!
في كل هذا السياق حدد نصر الله دور الدولة كمؤسسة علاقات عامة وإعلامية، أي تستنكر وتُدين، ومفيدٌ أن تذهب إلى الأمم المتحدة لأن العدو خرق القرار 1701، ومفيدٌ أيضاً الحديث مع الأميركيين، ولم يفته «أن الحريص ألاّ يحصل مشكل» يطلب من واشنطن أن «تطلب من الإسرائيليين أن ينضبوا»، وحدد دور الجيش في قضايا الأمن الداخلي كأن يعالج الإشكالات الدورية بين عشائر البقاع! وهذا ما كان قد ذهب إليه النائب عن التيار العوني المغوار العميد شامل روكز!
منذ التسوية الرئاسية وتسليم أطرافها قرار البلد لـ«حزب الله» باتت سلطة الدولة على الهامش، فالقرار في المربع الأمني وفق أجندة الممانعة وكي لا تبقى السلطة مجرد متراس يتدرع بها الحزب. لذلك فلا بد من اتخاذ خطوات الحد الأدنى للإنقاذ بالعودة للدستور والجيش والتمسك حقيقةً بالقرار 1701 الذي يخرقه العدو وتخرقه طهران. إنها اللحظة التي لم يعد معها يجوز الاكتفاء بتوجيه الإدانة إلى العدو المتربص بالبلد، ودفن الرأس في الرمال بترك القرار الاستراتيجي (قرار السلم والحرب) خارج الدولة، ومن مسؤولية الحكم الحؤول دون وضع المواطنين متراساً لنهج تسبب بدمار لبنان في عام 2006، وإلاّ فعلى الدولة و«الحكم القوي» السلام!