حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

عن كسر الخطوط الحمر... وكسر الدولة اللبنانية

بدءاً من 16 سبتمبر (أيلول) عام 1982؛ تاريخ انطلاق «جمّول»؛ جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وحتى عام 2000 مع المقاومة الإسلامية؛ وتحديداً 25 مايو (أيار) تاريخ استكمال تحرير آخر شبر من الأراضي اللبنانية المحتلة، قاتل لبنانيون دفاعاً عن الإنسان ومن أجل تحرير الأرض. شتلة التبغ انتصرت على القذيفة، وشجرة الزيتون اشتدَّ اخضرارها، والأرض المعطاء أنبتت ألوف المقاومين، والهدف بلوغ الحدود الدولية المعترف بها وفرض تطبيق القرار الأممي «425». ورغم الهِنات والتشبيح في بعض المراحل، فإن البلد وقف بشِيبِه ونسائه وشبّانه والحكومات المتعاقبة، خلف المقاومين الذين فازوا بالإعجاب والدعم العربي والدولي، وكيف لا؛ وعلى أياديهم كانت البداية: تحرير بيروت من رجس الاحتلال الصهيوني؟
إنجازات المقاومة كانت لبنة كبيرة غيّرت كثيراً من المشهد الذي خلفته الحرب الأهلية والاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم الاحتلال السوري، وربما شكلت لبنة أساسية في انتفاضة الاستقلال الثاني عام 2005. والأمر المؤكد أن معركة التحرير من الاحتلال الإسرائيلي، لا سيما بطولات النسوة اللاتي حاصرن المحتل بالزيت المغلي والحجارة، ألهمت كثيراً المقاومين في فلسطين الذين فجروا ثورة الحجارة. وفي المرحلتين كان التأييد الدولي للبنانيين والفلسطينيين وكان العدو في قفص الاتهام. وأزيد أن اللبنانيين رأوا في الخط الأزرق لعام 2000، رغم بقاء خلافات جزئية محدودة تستدعي المعالجة، إنجازاً كلل التضحيات، كما رأوا في القرار الدولي «1701» بعد «حرب تموز (يوليو)» مظلة دولية وفّرت للجنوب وللجنوبيين حماية وأماناً واستقراراً لم يعهدوه في أي مرحلة سابقة. ويأتي اليوم، ومن موقعٍ فئوي، من يعلن كسر الخطوط وبالتالي الحدود، مبشراً بتوجّه بالغ الخطورة على مصير لبنان وكل أبنائه.
والسؤال هو إلامَ سيفضي هذا المنحى الساعي لإسقاط القرار «1701» الذي بذلت السلطة اللبنانية كثيراً من الجهود لضمان تجديده بالشروط السابقة نفسها؟ والطريف أن هذا السقف العالي تمّ على خلفية ما جرى على الحدود مع فلسطين المحتلة، يوم الأحد في 1 سبتمبر (أيلول) الحالي، من ردٍ «مدروسٍ جداً» من «حزب الله» على العدو الذي درس بدوره رده (...)؛ ما بدا كأن ترتيبات معينة قد جرت، ويتردد أن الإعداد والإخراج اللذين التزم بهما العدو كانا صناعة روسية.
نعم في الشكل هدد «حزب الله» ونفذ ما تعهد به، وأطلّ نتنياهو على جمهوره مرحاً، وبدا أن كل طرف استفاد من تبادل الرسائل النارية عبر الخط الأزرق وسجّل النقاط التي يقدمها إلى جمهوره... لكن الأهم كان في النتائج؛ حيث تم الزج بلبنان في المواجهة المتصاعدة بين أميركا وإيران، وتحولت الأرض اللبنانية إلى ساحة مفتوحة متصلة بالساحتين السورية والعراقية، وبوسع قاسم سليماني تحريكها متى تطلبت الأجندة الإيرانية، مما يعزز أوراق طهران التفاوضية، خصوصاً مع ما يُشاع عن مبادرة فرنسية مقلقة تبدو نسخة منقحة من مفاوضات الاتفاق النووي في عام 2015.
بين حدين؛ أولهما أن تثبت إيران أنها قادرة على تهديد إسرائيل من لبنان، وثانيهما أن تؤكد تل أبيب تصميمها على أنها لن تتيح لطهران وأذرعها إيجاد بنية عسكرية تشكل خطراً عليها، والمقصود تحديداً الصواريخ عالية الدقة، وها هي تل أبيب تزعم وجود مصانع تطوير هذه الصواريخ في البقاع شرق لبنان، وقد سبق لرئيس الحكومة أن أعلن أن الموضوع تم التطرق إليه في زيارته إلى واشنطن... بات لبنان ساحة مستباحة مفتوحة على المخاطر يتلقى التبعات وسلطاته مجهولة مكان الإقامة، لأنه مع كل ما جرى الأحد في 1 سبتمبر الحالي وحرك الاهتمام الدولي، اقتصر الجهد اللبناني على اتصالات روتينية من جانب رئيس الحكومة، وغاب مجلس الوزراء؛ وهو دستورياً مركز القرار، وغاب مجلس الدفاع الوطني، وبدا الجميع في انتظار ما سيُعلن من الضاحية الجنوبية لبيروت؛ كأنها ولاية إيرانية.
صحيح أن لبنان يعيش هذه المرحلة تداعيات التسوية السياسية لعام 2016 التي أنهت في حينها الفراغ الرئاسي، ويتأكد يوماً بعد يوم أن التسوية تلك قامت على مبادلة؛ جوهرها: قرار البلد بيد «حزب الله»، مقابل مقاعد حكومية للشركاء الجدد، الذين قدموا المحاصصة الطائفية على ما عداها. ووفق منطق هذه التسوية؛ كانت التغطية الرسمية المعلنة لـ«الحزب»، فعندما يغفل مجلس الدفاع الوطني «حق لبنان» في الدفاع عن نفسه ويذهب إلى صيغة «حق اللبنانيين» بمعنى ترك القرار لنصر الله وخلفه دولة الولي الفقيه، يكون أهل السلطة قد قبلوا مسبقاً أن تكون حصة البلد وأهله تحمّل العواقب ليس إلا! وبالتالي لم يعد من حقّ أطراف السلطة إبداء أي مفاجأة حيال حجم التصرف والمبادرة من جانب «حزب الله» الذي يروج لانتصار تحقق، هو في الحقيقة انتصار على الدولة المغيبة.
وهكذا؛ بعيداً عن ترتيبات ما بعد ظهر الأحد التي لم تعد سراً أو لغزاً، جرى الترويج لجوٍ انتصاري أمام جمهور مسحور «مهجوس» بتلك اللغة عن «هرب» العدو، وعن «هلع» المستوطنين الذين لزموا المنازل والملاجئ (لديهم ملاجئ حصينة)... وتنطلق هتافات النصر والفخار والابتهاج بإنزال الهزيمة بالعدو، مع تجاهل كامل لحال اللبنانيين، وما يمكن أن نعدّه البيئة الحاضنة لـ«الحزب»، التي عاشت القلق الحقيقي والخوف كله، واستعاد الألوف، الذين هاموا على طرقات النزوح شمالاً من الجنوب، كوابيس «انتصارات تموز»، فبدا «الانتصار» هذا كسراً للدولة وكسراً للناس وآمالهم وأحلامهم، الذين أدركوا أنه لا أحد يعبأ بحياتهم وبيوتهم وأرزاقهم وذكرياتهم.
وسط هذا الجو «تظهرت» المفاجأة بالغة الخطورة على مصير البلد وأهله، وهي الإعلان عن كسر الخطوط الحمر القائمة منذ عشرات السنين، أي تجاوز الخط الأزرق، وشطب القرار الدولي «1701»، ومسح منطق الحدود، كما جرى بين لبنان وسوريا من استباحة، وهو قرار يفتح على لبنان أبواب الجحيم.