نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

«العدوان على حزب الله» ليس «العدوان على لبنان»

بلسانين على الأقل، تصوغ السلطة السياسية في لبنان، جملتها بشأن «حزب الله». للخارج تقول إنه مشكلة إقليمية، وترجمة ذلك ألا تطالبوني، كدولة ومؤسسات سيادية، بسياسات ومواقف وإجراءات أكبر من إمكانات لبنان. وللداخل تقول إن «حزب الله» مقاومة شرعية مكفولة بما تعارفت عليه الدول من حق الدفاع عن النفس بإزاء الاعتداءات الخارجية. وترجمة ذلك ألا تطالبني يا «حزب الله» بما لا طاقة لي على حمله كدولة ومؤسسات سيادية.
يقيم لبنان في هذه المساحة المرتبكة بين قولين متعارضين، ينفي أحدهما الآخر نفياً قاطعاً، إذ كيف يستقيم القول إن «حزب الله» مشكلة إقليمية، من دون أن يكون ما يؤتيه الحزب من أفعال صادراً عن إرادة إقليمية، وفاعلاً ضمن أجندة إقليمية، ومحققاً لأهداف إقليمية؟ وكيف تصير أفعال الحزب الإقليمي، محلية الطابع، تسبغ عليها الشرعيات كافة، لا سيما شرعية الدولة - الأمة السيدة المستقلة، تحت عنوان «حق الرد».
حقيقة الأمر أن «حزب الله» مشكلة إقليمية، كما وصفها رئيسا الجمهورية والحكومة في لبنان في مناسبات مختلفة، وكذلك هي سياساته وقرارته، بما يجعل أي مواجهة بينه وبين إسرائيل مواجهة تدور في هذا الفلك الإشكالي الإقليمي، الذي يصدف أن ساحته لبنان.
فحين ترسل إسرائيل طائراتها المسيرة إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، المعقل الرئيسي لـ«حزب الله»، لا يعود ممكناً إلا بحدود شديدة الضيق، وبالمعاني المحض قانونية، القول إن ما حصل هو «عدوان إسرائيلي على لبنان» يبرر حق الرد ويستدعيه.
ما حصل في الضاحية هو الترجمة العملية لكون «حزب الله» مشكلة إقليمية، وهو اشتباك إقليمي معه صدف أن ساحته لبنان، كما كان يمكن أن تكون ساحته سوريا أو العراق أو أي مكان آخر على مستوى جغرافيا الاشتباك الإقليمي.
فإسرائيل زعمت أنها استهدفت في الضاحية أجزاء من برنامج تطوير الصواريخ الدقيقة، الذي تقول إن «حزب الله» يديره بالتعاون الوثيق مع «الحرس الثوري» الإيراني. وهي لا تكف عن تسريب صور ملتقطة من الجو لمواقع في بيروت وبعلبك وغيرها، تقول إنها معامل ومخازن لهذه الصواريخ. أما «حزب الله» فكان قد سبق له أن أكد أن إيران لن تكون وحدها في أي حرب مقبلة مع إسرائيل، وأنه بات يملك من الصواريخ الدقيقة ما يكفي لأذيتها بما يفوق تصورها.
كان ليكون اعتداء على لبنان، استهداف هذه الصواريخ، لو أن السلطة السياسية وعبر المؤسسات الدستورية، قررت الحصول على هذا النوع من الأسلحة وفق حاجات أمنية لبنانية معرّفة بدقة، ووفق آلية واضحة لاتخاذ القرار بشأن استخدامها. فالسلاح ونوعه ومصدره ليس عتاداً وذخيرة بقدر ما هو قرار سيادي كبير، وقرار سياسي معقد، يدخل في معادلته كثير من الحسابات الإقليمية والسياسية والأمنية والدبلوماسية. لو لم يكن الأمر كذلك لما كانت دولة بحجم تركيا تعيش أزمة السجال حول شراء صواريخ «إس 400» من روسيا، في الوقت الذي هي فيه شريكة للولايات المتحدة في تطوير وصناعة المقاتلة الأميركية «إف 35»، ولا كانت أزمة نشر بطاريات الصواريخ السورية مطلع الثمانينات في لبنان سبباً للمواجهة العسكرية بين سوريا وإسرائيل. والأمثلة كثيرة.
إن تفرد «حزب الله» بقرار الحصول على سلاح محدد يسقط عن المواجهة مع هذا السلاح، من أي جهة أتت، صفة العدوان على لبنان، ويخرج مسألة الرد أو عدم الرد من دائرة حق الدفاع عن النفس، التي حاولت السلطة السياسية في لبنان التلطي خلفها لمسايرة «حزب الله».
إن المواجهة مع هذا السلاح هي جزء من الاشتباك الإقليمي الذي لا ناقة للدولة اللبنانية فيه ولا جمل، ويجدر بها النأي بنفسها عن التذاكي في استخدام عبارات وصياغات تعطي شرعية غير مستحقة لـ«حزب الله»، وتلغي المسافة بين موقف الدولة وبين موقف ميليشيا أمر واقع، هي جزء من مشكلة إقليمية. أما غير ذلك فإن لبنان الرسمي يعلن طوعاً عن اندراجه التام والكامل في منظومة «حزب الله»، ويرتب على لبنان واللبنانيين أثمان قرارات يتخذها الحزب منفرداً، وبالتضامن والتكافل مع الحرس الثوري الإيراني.
على الدولة اللبنانية أن تطور خطاباً سياسياً ودبلوماسياً، يحصر تداعيات الاشتباك الإقليمي بين إسرائيل و«حزب الله» - إيران، بغية تحييد مقدرات لبنان وبنيته التحتية عن الاستهداف، وكي لا تتحول المواجهة مع «حزب الله»، وهو اختارها لأسباب مصلحية وعقائدية، وبسبب من طبيعة ارتباطه العضوي بإيران، إلى عدوان على لبنان برمته.
إن كان لبنان غير قادر، وهو غير قادر فعلاً، على صيانة قواعد الاشتباك التي أرساها القرار الأممي 1701 القاضية بمنع وجود السلاح غير الشرعي جنوب نهر الليطاني، وبدء الحوار حول معالجة هذا السلاح، وخلق أطر سيادية للتحكم في قرار استخدامه، فالأجدى الانصراف إلى صيانة قواعد «التعايش القسري» مع هذا السلاح. وأولى هذه القواعد النأي بالنفس عنه، وعما يقوم به، والإقلاع القطعي عن استخدام عبارات من نوع: حق الدفاع عن النفس، وحق الرد، والمقاومة، وما شابهها من عبارات هي في العمق تشريع لسلاح إقليمي، ورخصة تدمير تعطى لم يرغب في مزيد من ضرب لبنان.