حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

في ظل الاستبداد والفساد والتطرف

مخيف هذا الاستهداف الفج، يتراءى للمتابع أن هذه المنطقة، وشرق المتوسط تحديداً، هي أكثر الأمكنة المعرضة للاختراق الخارجي، تستهدفها مطامع الدول الإقليمية كما الدول الكبرى. ولئن كانت الأطماع الإسرائيلية مفضوحة وقديمة ومرت بمراحل مختلفة ما بين المواجهة العسكرية والمقاومة والمقاطعة ورست رسمياً وشعبياً على رفض التطبيع، فأطماع النظامين المتطرفين في طهران وأنقرة فاقت بفجورها كل تصور. تبدأ باستثمار الاستغلال الديني لإنشاء «الجيوش» الرديفة والميليشيات التابعة، وتتقدم على الأرض من خلال التلاعب بالديموغرافيا والتوطين، كما في سوريا ونسبياً العراق، لإحداث توازنات جديدة.
لعبة الديموغرافيا الآنية لعبة قديمة لجأ إليها سابقاً حكم البعث في العراق وسوريا، لكن النتيجة لم تكن إلا تعميقاً للجراح بين إتنيات وجدت على هذه الأرض منذ قرون كثيرة. اليوم تستفيد تركيا من مصالح ظرفية لبعض المكونات السورية كما من التداخل السكاني على طرفي الحدود، وتستند إلى جانب تاريخي - ديني، فهناك بين السوريين من يحنُّ حقيقة إلى أيام الخلافة العثمانية، وبالمقابل هناك بين السوريين قلة متعصبة ربطت نفوذها واستمرار دورها بنظام الولي الفقيه، ولا يخفى أثر التوظيف الذي ركز عليه حكام طهران منذ بداية الثمانينات، وتكثف مع رئاسة بشار الأسد ليظهر أثره جلياً بعد عام 2011، فسوريا هي الحلقة المحورية في المشروع الفارسي للوصول إلى المتوسط. وهكذا باتت المنطقة أمام هلال شيعي يوازيه هلال تركي يتناغمان ويتكاملان، يربط الأول المنطقة باليمن، ويربط الثاني المنطقة بقاعدة عسكرية تركية في قطر والاستهداف معروف، والهدف فرض خرائط نفوذ جديدة مركزها سوريا، تستند إلى احتلال عسكري تركي مقنع في الشمال، وإيراني من خلال ميليشيات «فيلق القدس» فيما سمي «سوريا المفيدة».
بطرفة عين، وفي ظل المتغيرات الناجمة عن حصار العقوبات الأميركية، وفرملة ابتزاز طهران لأوروبا، وفي ذروة التسخين المشترك الإيراني - الإسرائيلي، يعلن حسن نصر الله وهو طرف لبناني، وضع البلد تحت إمرة خامنئي، ويكرر أن الخطوط الحمر كُسِرت وتالياً لم يعد من معنى لوجود قوات «اليونيفيل»، وبات القرار الدولي 1701 موضع قراءة هزلية، ويتم تبشير اللبنانيين بأن بلدهم بات ساحة متصلة بالساحتين السورية والعراقية، جبهة واحدة يتصرف بها قاسم سليماني في خدمة الأجندة الإيرانية! ويذهب نصر الله بعيداً فيعلن أنه قاتل وسيقاتل، تحت قيادة خامنئي «حسين العصر»، فيحرم المسؤولين اللبنانيين الماء الذي بالكاد يحفظ وجوههم، وهم يتحفون الناس بترداد خبريات عن حق اللبنانيين بـ«الرد» و«الدفاع» فيما البلد المستباح تفتح عليه أبواب الجحيم.
كان الفشل الإيراني في حماية النظام السوري، مقدمة لطلب التدخل الروسي، الذي سرعان ما قلب موازين القوى، وتباعاً عاد النظام السوري يستعيد المناطق التي أخرجته منها الانتفاضة الشعبية. منذ تلك اللحظة لم تضيع طهران الهدف فحرضت على عمليات الاقتلاع الديموغرافي وشجعت على التهجير. ولا شك سيدخل في التاريخ ما ارتكبه رأس النظام السوري بالتسبب في ترحيل ما يوازي نصف السوريين عن ديارهم، فمثل هذا الحدث هو سابقة قد لا تتكرر، وسيدخل في التاريخ أنه في فترة زمنية محدودة تمكَّن النظام الإيراني من تجنيس قرابة المليون شيعي من أفغانستان وباكستان وإيران والعراق وتوطينهم، ويتابع الدعاة الإيرانيون العمل لإيجاد بيئة حاضنة لهم عبر التوطين والتشييع... كل ذلك يؤكد أن علاقات النظامين الإيراني والسوري عضوية تشمل كل المجالات! وتنكشف اليوم جوانب إضافية من مخطط الاحتلال الإيراني، ويتبيَّن أنه على غرار الاحتلال التركي يتم التلاعب بالتاريخ والذاكرة والأسماء كأن يطلق على الجامع العمري في دير الزور تسمية جامع الرضوان! وعندما يكشف حسن نصر الله أن لا نية لانسحاب إيران من سوريا، فإن ذلك يعني أن الهدف من الأساس كان الاحتلال، وهكذا يؤسس حكام طهران لتجدد الحرب الأهلية، التي قد تندلع مع أي متغيرات تترك انعكاسات على توازنات المنطقة والتوازنات السورية.
«معركة» حلب في عام 2015 فضحت الأطماع التركية فتقدمت أنقرة لاحقاً لاحتلال مقعدها في «مسار آستانة»، ووفرت مع طهران التغطية لمشروع «مناطق خفض التصعيد»، التي تشهد الآن تغييراً جذرياً. ومذاك اتسعت في الشمال السوري عمليات التتريك في استخدام اللغة والتعليم والوظائف وتصريف الإنتاج والزعم بأن بلدات بعينها في شمال حلب هي تركية.
ومنذ أعلنت أميركا نيتها الانسحاب من شرق الفرات جددت تركيا طرح مطلب «منطقة آمنة» تحت سيطرتها... لتتراجع وتقبل المقترح الأميركي بـ«إنشاء مركز عمليات» مشترك يلبي الاحتياجات الأمنية للأطراف، ومنطقة عازلة بطول نحو 80 كلم بين رأس العين وتل أبيض بعمق بين 5 كلم و14، خالية من السلاح وتتحرك فيها الدوريات المشتركة الأميركية - التركية. لكن تركيا واصلت الترويج لمخططها فرض «ممر سلام» بزعم إعادة اللاجئين، وحقيقة الأمر تخطط تركيا لتوطين قرابة المليون لاجئ خدمة لأجندتها، ما سيمنع بقاء مناطق ذات أغلبية كردية محاذية للحدود التركية، الأمر الذي يهدد بمفاقمة الوضع الإنساني ويتسبب حتماً بصراعات لاحقة.
اليوم فيما الشعب السوري ضحية تسلطٍ ظلامي، من جانب قوى يجمع بينها الاستبداد والتطرف الديني تريد هذه القوى السيطرة على العقول، بدليل أن تبجح وزير الدفاع الإيراني من أن «أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان واليمن أتباع لنا» لم يرشق بوردة؛ فإن الاختراقات الخارجية التي جرت بيسر لا تعود فقط إلى استثمار مالي واستغلال ديني وأنشطة استخباراتية واستهدافات أمنية وحسب، بقدر ما أنها تطرح الكثير من الأسئلة ربما من بينها أثر التركيبة السكانية والتعددية والصراعات المذهبية، لكن ربما كان الأساس في كل هذا الخراب مرتبط بطبيعة دور وأداء النخب السياسية التي يجمع بينها الفساد، ما حال دون وجود سلطات شفافة تسمح بالمحاسبة وبتداول السلطة وعيش مشتركٍ حقيقي... وما التهديد اليوم بجرف لبنان إلى نار المنطقة إلا عينة!