د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

التونسيون والحاسة السياسية

خاض التونسيون في الأيام الأخيرة تجربة المناظرات السياسية التي شملت المترشحين لمنصب رئاسة الجمهورية، وذلك في استوديوهات التلفزيون العمومي ووسط مواقف متباينة وانتقادات وترحيب. وتم توزيع المترشحين على ثلاث مناظرات على امتداد ثلاثة أيام متتالية.
السؤال الذي يمكن تناوله على هامش هذه المناظرات هو، مدى أهمية فكرة إجراء هذه المناظرات، وأيضاً أهم ما كشفت عنه ويمكن اعتباره نقطة إيجابية.
لقد حصل جدل كبير حول ما تمت تسميته المناظرات، هل هي فعلاً كذلك، ويتوافر فيه شروط المناظرة كفنٍ قديمٍ يقوم على القدرة على الخطابة والبلاغة وتقديم البرهان ومقارعة الحجة بالحجة؟. والمناظرات - كما نعلم - مثلت في تاريخ الفكر والأدب نقطة مضيئة وعلامة ازدهار العقل والنقاش في مراحل تاريخية معينة.
طبعاً، فكرة المناظرة في المطلق لا يمكن أن تكون إلا محمودة، لكن ما حصل في التجربة التونسية الأولى من نوعها عربياً هو بريق الفكرة وتواضع التطبيق. وقد يُعزى ذلك إلى أسباب عدّة تتراوح بين حداثة التجربة سواء بالنسبة إلى الإعلاميين الذين احتضنوا الفكرة وطبقوها أو المترشحين للرئاسة الذين تفاعلوا مع المبادرة بالمشاركة وقبلوا الرّهان. لذلك؛ فإن النتيجة كانت في رمزية المبادرة ودلالتها لا في حرفيتها.
أيضاً، الذين خذلوا توهج هذه المناظرات الثلاث هم المشاركون فيها وتفاوتهم الكبير في الخبرة وفي القدرة على التعبير والإقناع، وتشتت المواضيع وكثرة المشاركين؛ الشيء الذي جعلها فاترة وأشبه ما تكون باستجواب لا بمناظرة حول قضية واضحة خلافية بين أطروحتين وبراهين مختلفة.
لنأتِ الآن إلى أهم شيء إيجابي أظهرته هذه المناظرات التي شارك فيها مترشحون من آيديولوجيات مختلفة ومصالح وأجندات مختلفة. وهي مسألة في الحقيقة تبدو لنا مهمة جداً، وتتمثل في أن التونسيين أظهروا من خلال متابعة المناظرات بكثافة تشبه إلى حد ما كثافة متابعتهم المباريات الرياضية، أنهم حريصون على الحياة السياسية، ولهم فضول التعرف على المترشحين للرئاسة كي يستطيعوا تحديد اختيارهم، ولمن سيمنحون أصواتهم اليوم في الانتخابات الرئاسية الثانية بعد تاريخ حدوث الثورة التونسية يوم 14 يناير (كانون الثاني) 2011.
من ناحية ثانية، فإن المكسب الحقيقي من هذه المناظرات هي إظهارها أن التونسي قد بات يمتلك حاسة سياسية واضحة وقادراً على تمييز صنفين من الساسة: الديكتاتور والسلفي المتزمت. فالتعليقات التي أعقبت المناظرات إذا تجاوزنا ما يتصل بضعف ثقافة البعض، فإن المحرار النقدي كان يصب في خانتين اثنتين: خانة ما تكشف عنه أفكار المترشح من نزعة شمولية في الحكم، وما يتسلل من سلوكه من نرجسية متضخمة وغطرسة متخفية. أما الخانة الأخرى المتمثلة في الخلفية الإسلاموية فلم يتم الاقتصار على انتماء المترشح المعلن فقط، بل إن التونسي بات يكشف الدوغمائي حتى الذي لا انتماء له للأحزاب الدينية.
هذه المسألة لا يستهان بها؛ وذلك لأنها بمثابة حصانة للشعب ضد الديكتاتوريين والمتطرفين المُقنعين. كما أنها حصانة ليست نظرية، بل هي نتاج تجارب مريرة وخبرة اجتماعية تراكمت مع الوقت ودفع الشعب التونسي فاتورتها باهظة وما زال باعتبار أن التطرف ما زال قائماً ومتخفياً، وأعداء الديمقراطية الذين يحاولون الاستفادة من الديمقراطية لا يدخرون حيلة.
إذن، بوصلة التونسي غداً (الأحد) موجهة ضد هذين الصنفين المشار إليهما، وهو أمر جيد كما أسلفنا التوضيح. غير أن هذا التركيز على إمارات التطرف وعلامات العودة إلى خصائص الحكم الشمولي قد يسمح بتسلل صنف آخر لا يقل ضرراً عن الصنفين الأخيرين، وهو الصنف الفاقد للبرنامج والمالك للخبرة والقادر حقاً على حل مشاكل البلاد.
طبعاً، هناك نقد لغياب البرامج عند المترشحين للرئاسة، لكنه نقد عابر وغير مهيمن على النقاش السياسي، فالأغلبية مهووسة بمراقبة الطريق المؤدية للحكم وخائفة من تسرب المتطرفين والديكتاتوريين مع التساهل مع الآخرين، رغم أنهم لا يقلون خطورة على سياسة الدولة واقتصادها.
وكي نكون أكثر نقدية وصراحة نشير إلى أن التونسيين قد جربوا إلى حد الآن ما يسمى التصويت المفيد بمعنى التصويت ضد حركة النهضة، حتى لحساب حركة لا تشبع توقعاته، فكانت النتيجة أن «حركة نداء تونس» التي فازت في انتخابات 2014 بالأغلبية في الانتخابات التشريعية، وفاز رئيسها المرحوم الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية... هذه الحركة التي ولدت كبيرة بفضل اختيار استراتيجية التصويت المفيد قد لجأت إلى سياسة التوافق والاتحاد مع حركة النهضة، الشيء الذي اعتبره الناخبون الذين راهنوا على حركة نداء تونس انقلاباً على الوعود الانتخابية.
بمعنى آخر، فقد أثبتت استراتيجية التصويت المفيد لقطع الطريق على حركة النهضة فشلها، ومن الخطأ الاستمرار فيها. لذلك؛ فإننا نعتقد أن لحظة العقلانية المحضة قد حانت، ويجب أن يجمع التونسي اليوم بين الحاسة السياسية التي تقيه من الديكتاتوريين والمتطرفين، وأيضاً شرط البرنامج الواقعي الواعد الزارع للأمل والجدير بالرهان عليه، من أجل الخروج من دوامة الأزمة المالية الاقتصادية وهشاشة الوضع الاقتصادي بشكل عام.