سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

وصفة وطنية للتعليم

عشر سنوات مرّت، لم يتقدم خلالها العالم قيد أنملة، في تخفيض عدد الأطفال الذين يبقون خارج المدارس، وبالتالي فشلت الجهود الأممية والخطط الدولية، وذهبت المؤتمرات التي صُرف عليها - ما كان الصغار أولى به - هباء الريح، وبقي مستوى الأمية على حاله.
ورغم أن بعض الدراسات كانت متفائلة في السنوات الماضية بسبب ازدياد عدد المدارس والمبادرات الحماسية، فإن بيانات جديدة، يُفترض أنها أكثر دقة في الاحتساب اعتمدتها «اليونيسكو»، أثبتت أنْ لا تقدُّم يُذكر وأنّ الضحايا لا يزالون هم أنفسهم. إنهم الأطفال في البلدان الأكثر فقراً حيث إن ربعهم لم يعرفوا المدرسة، والغالبية الساحقة من هؤلاء هم من البنات، بحيث إن كل ثلاثة أولاد يبقون من دون تعليم تقابلهم تسع فتيات، وهي نسبة دالّة للغاية، على أن التفكير البشري لا يزال تمييزياً وقاهراً.
تقول البيانات إن 258 مليون طفل حُرموا من المدرسة العام الماضي، كثيرون منهم في أفريقيا لا سيما جنوب الصحراء الكبرى، ولا تبدو البلدان العربية من بين الأسوأ حالاً، غير أنْ لا شيء يُطمئن، فأكثر من 40% من الأطفال السوريين في بلادهم بقوا بلا مدارس، والذين نزحوا إلى الخارج حدّث ولا حرج. ففي لبنان يقال إن 300 ألف طفل سوري لا يذهبون إلى المدرسة. وظروف التعليم في مخيمات النزوح حتى في الأردن وتركيا ليست مثالية على الإطلاق، ولنا إليها عودة. حال اليمن بالطبع ليس على ما يرام، وليبيا لم يتسنّ توفُّر معلومات عنها بسبب الظروف الأمنية والفوضى. لكنّ واقع الحال، حتى في لبنان الذي لم يصنَّف في مستويات دنيا، فإن التسرب المدرسي يتصاعد بشكل لافت بدل أن يتم الحد منه، ومعالجته بشكل فعال. والمفارقة الحزينة، أن الوضع كان أفضل، في المدارس الرسمية مثلاً حين كان الأهالي، قبل سنوات قليلة، يدفعون أقساط تسجيل أولادهم، ويكافحون من أجل تذليل الصعوبات. خفّ العبء المادي وصار التعليم بالمجان، ومع ذلك ارتفع عدد الأطفال الذين يغادرون الصفوف في المرحلتين الإعدادية والثانوية. وكانت الشكوى كبيرة من اكتظاظ الصفوف، فصار عدد الأساتذة يفيض على الحاجة ومع ذلك لا يبدو أن ذلك أثّر إيجاباً. وأُعيد تأهيل مدارس وتم تعديل مناهج، ولم يتوقف تدريب المعلمين، لكنّ المستوى الفعلي إلى انحدار. وهذا يدلل على أن العملية التعليمية مركّبة ومعقّدة، وتتجاوز الإجراءات التقنية التي تنصح بها الهيئات الدولية والجهات المانحة، وتحتاج إلى أن تكون لها خصوصيتها في كل بلد ومنطقة، بحيث تفهم الناس ومشكلاتهم وصعوبات تعليم أولادهم. ففي «مخيم الزعتري» للاجئين السوريين مثلاً، تشكو أمهات من أن الهيئات الدولية تعلّم أطفالهم أسماء النباتات وهم لم يشاهدوا في المخيم الذي وُلدوا فيه شجرة أو أي أخضر. وتسخر الأمهات لأن أطفالهن الصغار يتعلمون في الكتب الإنجليزية التي تصل إليهم كلمات مثل: «مسبح وفندق، وطريق سريع، وناطحة سحاب، وسينما» ويرون صورها، بينما لا يتعدى ما رأته أعينهم فعلياً في الحياة المربع الصغير المؤلف من بضعة أمتار يتحركون فيها، وغرفاً متلاصقة يتنقلون بينها. وتكاد تشعر أن مهزلةً تُرتكب حين ترى أطفالاً يتعثرون في نطق العربية ويُرغَمون مع ذلك على تعلم الأجنبية قبل أن يتقنوا لفظ حروفهم الأم، وهم يعيشون في دولة عربية.
في بلد كلبنان الوضع أقل تعقيداً بالطبع من «مخيم الزعتري» لكنّ المشكلة متعددة الأبعاد. وقد لا نبالغ لو قلنا إن التفكك العائلي والانهيارات الاجتماعية الأسرية، باتت من أهم أسباب حرمان الأولاد من التعليم. وتروي المعلمات قصصاً لا تُصدق حول تأثير حالات الطلاق التي صار عددها يوازي عدد الزيجات أو يفوقها، وما ينتج عنها من خلافات وتدنٍّ في المستوى المالي للعائلة، وظلم للأطفال، وإهمال حتى لحاجاتهم الأولية. وإذا أضفت الجهل واللامبالاة والإحباط، وتدني مستوى التعليم نفسه ما دام التوظيف لا يخضع للكفاءة بقدر ما يتحكم به الولاء للزعيم والانتماء الحق للطائفة، فإن الخروج من المأزق يحتاج إلى عمل في كل اتجاه، ودور جوهري لمعلم مؤهل لاحتضان الطفل ومشكلاته العائلية مع صعوباته التعليمية. وهذا لا يزال مستعصياً.
ولبنان نموذج متقدم بالنسبة إلى أماكن أخرى أسوأ حالاً، وقد لُوّنت على الخريطة باللون الأحمر الفاقع الذي يوحي بالخطر. لذلك تخشى «اليونيسكو» فشلاً ذريعاً في الوصول إلى أهدافها، وتعثراً في تطبيق خططها التي يُفترض أن تجني ثمرها بتصفير عدّاد الأطفال خارج المدارس ببلوغ عام 2030، لكن إن بقي المسار على ما هو عليه، فإن المنتظر أن يبقى واحد من كل ستة أطفال خارج المدرسة، وواحد فقط من بين كل عشرة شبان سيتمكن من إنهاء المرحلة الثانوية في الدول المتعثرة.
صورة مظلمة لعالم يبدو فيه التعليم ليس فقط ضرورة للفوز بعمل بل حاجة ملحّة إلى تسيير أصغر المهمات الحياتية اليومية، وهي تزداد تعقيداً وتتطلب قدرة على التحليل والقراءة وحسن التدبير.
ومَن ما زال يرى أن حل المشكلات التعليمية يأتي من الخارج، ومن دون وصفة وطنية تتماهى مع حاجات المجتمع بأدق تفاصيله وسيكولوجيا العباد بحميمياتها، لا بد سيبقى عالقاً في الفراغ كما هي طموحات «اليونيسكو» وخيبة أملها.