حازم صاغية
مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي.
TT

في بعض معاني العمالة والقسوة عند اللبنانيين

لم يخطئ الذين طالبوا بإنزال العقاب بمسؤول سجن الخيام عامر الفاخوري. لقد أخطأوا حين ربطوا العقاب بالعمالة. الرجل يستحقّ العقاب حين تثبت عليه ممارسة التعذيب - أحد أشنع أشكال القسوة.
نعم، القسوة لها الأولويّة، أو هكذا ينبغي. إنزال الألم بالجسد الإنسانيّ، وبعده إنزال الإهانة بصاحب هذا الجسد هو دائماً أكثر الأفعال القبيحة قبحاً. إنّه إعلان خروج طوعي من الرابطة الإنسانيّة عن طريق إلقاء الضحايا خارجها. عن طريق تثبيتهم بين الموت والحياة.
إنّ أحد الفوارق الكثيرة بين العنف والقسوة أنّ الأوّل يسعى إلى الانتصار، فيما الثانية تسعى إلى الإيلام المصحوب بالإذلال. القاسي قد لا يقتل خصمه، إلاّ أنّه يعيد خلقه هويّة معطوبة ومنكسرة معاً. لهذا تغدو معاقبة مَن يمارس التعذيب واجباً إنسانيّاً وأخلاقيّاً، فضلاً عن كونها واجباً سياسياً. هذه الحساسيّة ضعيفة في ثقافتنا السياسيّة. أفعال بشّار الأسد والبلادة في استقبالها برهان على هذا الضعف.
للتذكير، هذه بضع معلومات ووقائع عن مصنع القسوة، المسمّى سجن الخيام، تركها لنا بعض من كتبوا عنه:
السجن «استضاف» قرابة ثلاثة آلاف، منهم 400 امرأة، وفيه فارق الحياة تحت التعذيب 19 شخصاً. بعض الصحافيين الذين وصفوه قالوا إنّه «نزول إلى الجحيم». حالات حرقٍ بأعقاب السجائر لسيقان الفتيات. إلباس الرؤوس أكياساً وطرحهم أرضاً والدَوس عليهم. التبوّل على رجال ونساء. تهديدات بالاغتصاب. تعرية أشخاص وربطهم إلى كراسيٍ توضع ليلاً خارج المبنى حيث البرد القاتل. التعذيب بالكهرباء وإسماع أصوات المعذَّبين لسواهم. أحياناً تكون الأمّ مَن يسمع وأبناؤها مَن يُعذَّبون. حفر نجمة داود على بعض الصدور حرقاً بالسجائر. أكبر غرف السجن ثلاثة أمتار مربّعة، تضمّ ما بين خمسة وستّة، بلا مرحاض أو مغسلة أو كهرباء. العطش قاتل لندرة ما يُعطى لهم من ماء.
مصنع القسوة هذا ليس له وجود قانوني معلن. هذا ما شجّع المرتكبين، خصوصاً ما بين افتتاح السجن في 1985 و1995. في العام الأخير تمكّن الصليب الأحمر من أن يدخل المعسكر. الأمور تحسّنت نسبيّاً. مع هذا، فعند اقتحامه في 2000. حين حُرّر 166 سجيناً كانوا لا يزالون فيه، بدت صُوَر بعضهم كصور الناجين من معسكرات الإبادة النازيّة.
هذه هي القسوة التي ينبغي أن تُحاكَم عبر محاكمة الفاخوري.
العمالة، في لبنان، مسألة أعقد.
فنحن حين لا نتّفق على معنى التحرير، لا نتّفق على معنى العمالة. فإذا اعتمدنا تأويل طرف من طرفي النزاع، جاء الأمر تزكية لانتصار هذا الطرف على الآخر، وتكريساً شرعيّاً لهذا الانتصار، وربّما رغبة في استكماله. تكريسٌ كهذا قد يجد طريقه إلى النصوص والدساتير تبعاً لتوازن قوى معيّن في ظرف ما. إلاّ أنّ ذلك لا يعكس العدالة، ولا الموضوعيّة، ولا يؤسّس، على المدى الأبعد، لمصالحة متوازنة.
كيف نقول إنّنا متّفقون على المعاني فيما يقول زعيم «حزب الله»: «نحن هنا من لبنان نقول للعالم كلّه إنّ إمامنا وقائدنا وسيّدنا وعزيزنا وحُسيننا في هذا الزمان هو سماحة آية الله العظمى الإمام السيّد علي الحسيني الخامنئي دام ظلّه»؟
معاني التحرير والعمالة، إذن، غير صالحة للاستخدام.
أبعد من هذا: نادرة جدّاً، إنْ لم تكن معدومة، البلدان التي تشهد تحريرين في غضون سنوات خمس. لبنان شهد تحريرين: في 2000 وفي 2005.
في تجارب البلدان، تحريرٌ واحد أكثر من كافٍ. البلد المعني يحوّله إلى مناسبة تأسيسية. تُصاغ له أسطورة مؤسّسة، وتُشتَقّ منه شرعيّة لسلطة ما بعد التحرير. في لبنان، حصل العكس. التحريران لم ينجم عنهما شيء كهذا. واحدهما نطح الثاني.
ليس سرّاً أنّ قطاعاً عريضاً من اللبنانيين يرى أنّ التحرير من إسرائيل هو وحده التحرير، فيما قطاع عريض آخر يرى أنّ التحرير من سوريّا هو التحرير. جمع التحريرين في رواية واحدة، وعاطفة واحدة، مستحيل. نبذ التحريرين والتعامل معهما كمناسبتين غير سعيدتين مستحيل أيضاً.
وبفعل افتراق «وجهتي النظر»، ستبقى «الخيانة وجهة نظر»، على عكس نفي سقيم دارج. هذا فضلاً عن استنفار غرائز الثأر البدائيّة والتلويح بحبال المشانق.
لكنْ إذا كان من المستبعد الاتفاق حول العمالة والتحرير، فهل يمكن الاتفاق حول القسوة؟ هل يمكن الخروج بموقف لبناني واحد يقول: إنّ من مارسوا التعذيب، كائناً ما كان الطرف الذي يخدمونه، يستحقّون أقصى العقاب؟ وأنّ هذه المعادلة تنطبق على الخيام كما تنطبق على عنجر والبوريفاج؟ هل يخلع كلّ طرف «صاحبه» متى تبيّن أنّه جلاّد؟
التوصل إلى تسوية تاريخيّة كهذه يتطلّب موقفاً من السياسة والوطنيّة، كائناً ما كان تأويلهما. مفاد هذا الموقف خفض أهميّة السياسة وخفض قداسة الوطنيّة بحيث يخسران قدرتهما على تبرير القسوة.
هكذا يصار إلى أنصاف ضحايا العمالتين.
قد يقال إنّ هذا الكلام وعظ. هو كذلك، خصوصاً أنّ استعدادنا للتوافق حول القسوة لا يفوق استعدادنا للتوافق حول العمالة. فنحن، والبراهين كثيرة، نمضي في ممارستها بالكلام في انتظار الفرصة السانحة للفعل.
نعم، هو وعظ. لكنّ الوعظ، كائناً ما كان الأمر، خير من التحريض.