حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

طموحات إردوغان في سوريا

بموازاة الضغوط السياسية الداخلية التي تحاصر الرئيس التركي إردوغان والتراجع الاقتصادي في تركيا، باتت أولى أولويات الرئاسة التركية تحقيق أمر ما في سوريا يمكن أن يؤمن للإردوغانية حبل نجاة يؤخر السقوط، وهو المصير المحتوم لتجربة سياسية كانت خادعة في البدايات، وانكشفت لاحقاً وحاضراً عن حكم ديكتاتوري يحاكي الديكتاتوريات العسكرية التي حكمت تركيا.
جوّف إردوغان الحكم البرلماني من مضمونه، وفرض تعديلات دستورية على مقاس شخصه، فامتلأت السجون بالمعارضين، وبات صاحب أطول سجل مُخزٍ كسجّان للصحافيين. ومن مرحلة الإيهام أنه سيعمل لحل المسألة الكردية وهي أكبر مشاكل تركيا، فحاز أصوات الكرد ومتّن سيطرته، لينقلب على وعوده ويطلق حرباً ضد الأكراد في تركيا وخارجها، وصولاً إلى تهديد أكراد سوريا بدفنهم أحياء. وحوّل حزب العدالة والتنمية إلى مظلة تغطي شبكة عائلية من المقربين الذين يجمع بينهم الفساد والجشع، ووضع تركيا في صدام مع جوارها والعالم.
أما بين السياسات الأخطر التي اعتمدها وهو الحالم بـ«عثمانية جديدة»، فكان مشروعه إقامة «هلال تركي» عصبه المجموعات «الجهادية» والفصائل المختلفة التي نبتت كالفطر تحت عباءة حركة «الإخوان المسلمين»، فرعى منذ بدايات عسكرة الانتفاضة السورية، توفير كل الدعم لأكثر الجماعات تطرفاً خصوصاً «داعش» و«النصرة»، فتدفق عبر تركيا ألوف الإرهابيين من كل العالم وهناك تلقوا المساعدات العسكرية والمادية للانتقال إلى سوريا والعراق. وشكلت تركيا الممر لتمويل «داعش» من خلال سرقة الآثار وبيعها ومن تهريب النفط، ومعروف أن الوثائق التي كشفتها «ويكيليكس» توثق قيام نجل إردوغان وصهره خصوصاً في تسويق نفط «داعش» المنهوب من سوريا والعراق. وقدمت تطورات السنوات الأخيرة إردوغان كنموذج للسياسي المحترف الابتزاز، خصوصاً في علاقته مع أوروبا ومع الدول العربية كالسعودية ومصر والأهم في علاقات تركيا مع المسألة السورية واللاجئين السوريين.
معضلتان تواجهان إردوغان في سوريا، الأولى: إدلب أو السلة الغذائية السورية التي تسعى تركيا إلى إدامة سيطرتها عليها، وتريد من خلال المجموعات المسلحة السورية التابعة للجيش التركي مباشرة أن يستمر دورها في المرحلة الانتقالية وما بعدها عندما يحين أوانها. والثانية: الوضع في شرق الفرات والمتعلق بالطرح التركي وهو إيجاد منطقة آمنة بذريعة أن ذلك يحفظ أمن تركيا من خطر كردي افتراضي، والحقيقة تسعى تركيا لتوجيه ضربة قاصمة للحركة الكردية، على غرار ما جرى في عفرين، تشكل رافعة سياسية لإردوغان. وفي المعضلتين تواجه تركيا في الأولى مع الروس وفي الثانية مع الأميركيين.
المعركة على إدلب مفتوحة والقمة الثلاثية في تركيا التي جمعت إردوغان مع الرئيسين الروسي بوتين والإيراني روحاني، كانت لتركيا أقل من التوقعات، فكل ما حصل عليه إردوغان كان شراء الوقت بمنح بلاده فرصة جديدة من أجل تنفيذ ما التزمه في سوتشي بشأن إخراج «هيئة تحرير الشام» وبقية الإرهابيين، وإلاّ فالمنطقة أمام أكثر من خان شيخون، معركة بالتقسيط كما نوقشت في مجلس الدوما الروسي تلافياً لنزوح كبير، على ألا تُمس نقاط المراقبة التركية التي عندما وجدت كان الهدف منها طمأنة المدنيين، واليوم باتت هذه النقاط تحت الحماية الروسية بواسطة وحدات سورية! وحتى لا يُحاصر الدور التركي لمّحت أنقرة إلى عمل عسكري ضد «هيئة تحرير الشام» والمجموعات المتشددة، لسحب الذرائع الروسية، وجاء التلميح التركي في وقت باتت معه خيارات المتشددين شبه منعدمة لو كانت تركيا جادة، لكن الأرجح أن «هيئة تحرير الشام» ستدخل في خيار مرن، بنقل البندقية من كتفٍ إلى كتف، ما من شأنه تقوية الموقف التركي في مواجهة الضغط الروسي، فيتم على زغل تعليق العمل العسكري مقابل فتح طريق حلب دمشق وحلب اللاذقية، ويلبي هذا الموقف، وفق الرؤية التركية، المطلب الأميركي بمعالجة وضع متطرفي إدلب... لكن النار ستبقى تحت الرماد ومعها سيبقى معلقاً البحث بتسوية الأزمة السورية.
شرق الفرات و«المنطقة الآمنة» التي تطالب بها تركيا وتريد فرض سيطرتها عليها مسألة أخرى، فأنقرة التي ضربت موعداً آخر الشهر الجاري لتنفيذ هذه المنطقة كما تريد، وإلاّ سيتدخل الجيش التركي من طرفٍ واحد، ستمدد حتماً هذا الموعد، كما دأبت منذ الموعد الأول الذي حدده إردوغان في العاشر من يناير (كانون الثاني) 2019 أي قبل تسعة أشهر تقريباً. ومع الإصرار الأميركي على الاكتفاء باتفاق مع تركيا شبيه باتفاق منبج يؤمن أمن الحدود بشكلٍ كامل، لا يبدو المطلب التركي مقبولاً لأن ما تراه واشنطن يقتصر على «آلية أمنية» في منطقة محدودة.
عليه يواصل الجيش الأميركي مد «قسد» بالدعم العسكري لتطوير إمكانات هذه القوى، لأن الأولوية الأميركية هي لمواجهة خطر «داعش» الكامن، ويرصد الكونغرس 125 مليون دولار تضاف إلى نحو 300 مليون دولار تأمنت من دول التحالف لتطوير المنطقة التي تشكل عائقاً أمام التمدد الإيراني. سيبقى مخطط إردوغان فرض السيطرة التركية على منطقة طولها 450 كلم وعرض بين 30 و40 كلم أضغاث أحلام، خصوصاً أن تركيا إردوغان المعروفة بصداقتها للتنظيمات المتشددة ورهانها عليها، وضعت في رأس أولوياتها تشريد الأكراد وتعريب المنطقة كي تشكل حاجزاً بشرياً يضمن إلى أمدٍ بعيد التدخل التركي في سوريا. هنا نشير إلى أن الرئاسة التركية تتحدث عن إعادة إسكان ما بين مليوني لاجئ وثلاثة ملايين لاجئ سوري في هذه المنطقة في حين أن كل النازحين من شرق الفرات هم بحدود نصف مليون لاجئ!
من إدلب إلى شرق الفرات، «الإردوغانية» لو حققت أي تقدم لن يكون الأمر إلا وصفة خراب تتجدد معها الحرب الأهلية التي لم تضع أوزارها. هذه الطموحات تصطدم بمصالح ورؤى موسكو وواشنطن التي مع تراجع الحرب إلى أماكن محدودة تدير الأمور بقوى النظام والقوى الكردية، ولا يبدو أن من بين أولويات العاصمتين توفير خشبة خلاص لصانع السياسة التركية المطالب بحلول داخلية للتأزم السياسي التركي والتراجع الاقتصادي أو دفع الثمن في صناديق الاقتراع.