بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

بوريس مُشاكس بلا منافس

مفهوم أن المقصود هو بوريس جونسون، رئيس الحكومة البريطانية، الذي أثبت جدارته في حمل وصف «مشاكس»، بل ربما ليست هناك مبالغة إذا قيل إن بوريس سياسي مشاكس بلا منافس، ليس بمعنى غياب منافسين له طامحين إلى إزاحته والجلوس محله، وإنما لأن قدرته على مشاكسة خصومه، بل حتى مخالفة مجمل الأعراف التقليدية في كواليس السياسة البريطانية، أدهى من دهاء، أي سياسي على منافستها، أو التصدي لها، وربما أيضاً إيقافها. في هذا السياق، بالوسع أن أجازف في القول إن بوريس جونسون المشاكس سوف يتغلب على خصومه، سواء داخل حزب المحافظين، أو خارجه، أما زعماء أحزاب المعارضة، فليس مستبعداً أن يزيحهم السيد جونسون جانباً، إذا جرت معركة انتخابات برلمانية قريباً.
ليس جديداً تعريف أسلوب بوريس جونسون بالمشاكس. من الإنصاف للرجل أن يُقال إنه لم يخف طبيعة أسلوبه، سواء في العمل السياسي، أو الجانب الخاص من حياته، وهذه صفة تُحسب لصاحبها، حتى لو اختلف معه بشأنها أغلب الناس، ذلك أن الشخص إذا حقق أعلى مراتب النجاح، وفي الآن ذاته مارس حياته بوضوح، حتى فيما يمكن عدّه عيوباً بنظر غيره، يبقى أفضل من شخصية عامة تمارس الازدواجية في كل شيء، من العمل العام إلى الحياة الخاصة. بيد أن الأمر ليس سهلاً. الواقع يقول إن المجتمع، في مختلف الثقافات، يفضل أن يضرب المسؤول السياسي مثلاً، سواء عبر قراراته، أو من خلال سلوكه الذاتي، يجعل منه قدوة ترفع مكانته إلى درجة الممنوع من ارتكاب أي خطأ. لكن هذا ليس صعب التحقيق فحسب، بل هو أقرب للمستحيل. لذا، يجوز القول إن بوريس جونسون سياسي شجاع، عندما يتعلق الأمر بعدم إخفاء رغبته في المشاكسة وقبول التحدي، ثم ارتداء قفاز المنازلة السياسية، والنزول للحلبة.
لكن مشاكسات بوريس جونسون السابقة لتسلّمه رئاسة الحكومة البريطانية، وزعامة حزب المحافظين، وبالتالي التحكّم في القرار البريطاني، من خلال انتخاب أعضاء الحزب له، وليس عبر اقتراع عام، تبقى أقل أهمية من حيث تأثيرها العام، أو قل إنها أقل خطورة بكثير، حين يُؤخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن يتبع تشدد بوريس جونسون في شأن الإصرار على إنهاء عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي نهاية هذا الشهر، سواء تم التوصل إلى صفقة مع مفوضية بروكسل، وهذا مستبعد، أو استحال ذلك. يلفت النظر في هذا السياق، أن مشاكسة بوريس السياسية بدأت تكسبه نوعاً من الإعجاب بين القواعد الشعبية لمختلف الأحزاب. لمستُ ذلك بنفسي عندما لاحظت تحول موقف جيران ذوي ميول سياسية تختلف من شخص لآخر، بينهم مَن استخف بجونسون عندما خاض معركة خلافة تيريزا ماي، لكن البعض، ضمن ذلك الفريق، يبدي الآن حماسة كي يقترع لصالح جونسون إذا تقرر إجراء انتخابات برلمانية. السبب؟ لقد ملّ أغلب الناس من تكرار فشل مجلس العموم في اتخاذ الموقف الصحيح بتنفيذ نتيجة استفتاء 2016، وبدء مسيرة بريطانيا الجديدة بعد «بريكست». الواقع أنني أحد الراغبين بانتصار نهج جونسون المتشدد أوروبياً، بصرف النظر عن النتائج.
شجاعة من نوع آخر تحلى بها بوريس جونسون، إذ وفق صحيفة «صاندي تايمز»، الأحد الماضي، وضع جونسون المشاكسة جانباً، فأقدم على الاعتذار للملكة إليزابيث الثانية، مباشرة بعد صدور حكم أعلى هيئة قضائية في المملكة المتحدة، ببطلان قرار تعطيل البرلمان، الذي كان أصرّ عليه وأثار ردود أفعال غاضبة في مختلف أنحاء بريطانيا. بالتأكيد، موقف شجاع من جانب بوريس جونسون، ذلك أن إقدام المسؤول على إبداء الأسف إزاء أي قرار سارع إلى اتخاذه، ثم تبيّن أنه خطأ، هو إجراء مِقدام يتطلب شجاعة ليس يمتلك ناصيتها سوى كبار أهل القرار. بيد أن عناد بوريس جونسون عاد فاستحكم موقف الرجل عندما أغضب الكثيرين باستخدام كلمات قاسية تحت قبة مجلس العموم، مثل «الاستسلام» و«الخيانة»، ثم أبى الاعتذار والتراجع عنها. صحيح هي كلمات غير مألوفة في قاموس المفردات السياسية لبريطانيا المعاصرة، لكن الصحيح أيضاً أن بوريس جونسون لا يُنافَس بين ساسة بريطانيا المعاصرين في جرأة المشاكسة، وربما الجينات التي تعيده إلى أصول شرقية تلعب دوراً في إذكاء ذلك العناد، واجتراء تلك الجرأة.