عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

العدو الأول للسودان

أن يقف رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك معتذراً، أول من أمس، لصحافيين تعرضوا للضرب والإهانة لدى محاولتهم الدخول لتغطية مؤتمره الصحافي في مطار الخرطوم، إثر عودته من رحلته الخارجية إلى نيويورك وباريس، أمر يُقرأ من وجهين؛ الأول أنه تصرف محمود من رئيس الوزراء، أن يتأسف للإعلاميين، ومن بينهم الزميل أحمد يونس، مراسل هذه الصحيفة، عما تعرضوا له من رجال الأمن الذين حاولوا منعهم من دخول قاعة المؤتمر الصحافي، ويقدم لهم أشد الاعتذار «بكل العبارات» عن التجاوز غير المقبول، متعهداً بإجراء تحقيق في الواقعة.
الوجه الثاني أن الأمن لا يزال بعقلية النظام الساقط، يهين ويضرب ويتصرف بهمجية ظناً منه أنه لن يُحاسَب. وقد لمس الدكتور حمدوك هذه النقطة تحديداً بكثير من الحنكة، عندما قال في سياق اعتذاره وتعهده بالتحقيق في الأمر إن «الأجهزة التي ظلت تعمل لفترة طويلة من الزمن في ظل مناخ مختلف، لا نتوقع أن تتغير ما بين يوم وليلة». ولم يتوقف عند ذلك، بل مضى ليدعو الجميع إلى التعاون والعمل معاً لعبور الطريق الصعب لخلق مناخ ديمقراطي سليم ومعافى من شوائب ثلاثين عاماً من الحكم الاستبدادي.
في هذه الواقعة كثير من الرسائل التي ربما يتعين على الناس قراءتها بشكل جيد. ففي حديث رئيس الوزراء كلمات مفتاحية مثل «الطريق الصعب»، و«لا نتوقع تغييراً ما بين يوم وليلة»، وأهمية «التعاون والعمل معاً» لكي يعبر السودان هذه المرحلة الانتقالية الهشة والصعبة إلى بر الانتخابات المقررة بعد ثلاث سنوات، للإتيان بنظام ديمقراطي متماسك يتوج مطالب الثورة، ويعوض التضحيات الكبيرة التي قُدّمت مهراً لها. حمدوك في ردّه تناول ما هو أبعد من واقعة المطار المستهجنة التي وعد بالتحقيق فيها، واعتذر عنها، إذ لمس جانباً مما تواجهه الحكومة من مشاكل وعقبات، وما تأمله من تعاون مختلف الأطراف «لكي نحمل البلد معاً»، على حد تعبيره.
هذه المرحلة تحتاج بالتأكيد إلى كثير من الحنكة من جانب الحكومة، لكنها أيضاً تحتاج إلى أقصى درجات الصبر من الشعب. وفي تقديري أن أكبر خطر على المرحلة الانتقالية في السودان هو قلة الصبر، والتطلعات العالية للناس في مرحلة ما بعد الثورة، واستعجالهم للنتائج والمكاسب. صحيح أن «الدولة العميقة» للنظام الإخواني الساقط خطر كبير أيضاً، إذ تنشط في كل الاتجاهات، وتسعى بكل السبل لتقويض الحكومة وإجهاض الثورة، لكنها أيضاً تراهن على نفاد صبر الناس من عملية الإصلاح البطيئة، وعلى تراكم غضبهم من حكومة الثورة، ما يمهِّد الطريق أمام الذين يفكرون في انقلاب لإعادة إنتاج النظام السابق بوجوه ومساحيق جديدة، ولو على مراحل.
السودانيون يحيرونك في موضوع الصبر؛ فهم بطبعهم وفي غالبيتهم شعب صبور في جل المواقف، لكنهم في الوقت ذاته سريعو الغضب، لا سيما إذا ما استُفزوا أو شعروا بأن أحداً يمس كرامتهم. هذا في الحياة العادية، أما في السياسة، فالوضع مختلف تماماً. فهذا الشعب يعشق السياسة، ويدمن نقاشاتها، ويتابع كل صغيرة وكبيرة فيها محللاً ومجادلاً بالرأي، وليس لديه صبر على السياسيين. ومن يتولّ منصباً في السودان فعليه أن يتمتع بقدرة هائلة على تحمل نتاج هذا الإدمان السياسي من نقد وتحليلات وآراء مطروحة في كل قضية.
من يرصد مواقع التواصل الاجتماعي فسيصاب بالذهول لحجم المتداول من مواد تخوض في السياسة وتحليلاتها، ومن الآراء الكثيرة المطروحة من كل جانب في كل القضايا. هذا الوعي السياسي سلاح ذو حدين. فهو يجعل الناس ملمين بكل ما يدور في الساحة، ما يعني وجود عين لا تنام تراقب أداء الحكومة ومؤسساتها، لكنه في الوقت ذاته يفتح باباً للقلق من كثرة النقد وتعدد الآراء، ومنه قد ينفذ أولئك الذين يتربصون بالثورة ويدسون كثيراً من الشائعات والأخبار المغرضة لإثارة الإحباط بين الناس وخلق ظروف تصعّب عمل الحكومة وتضعفها في نظر الناس.
حكومة الفترة الانتقالية تعمل بلا شك في ظل ظروف شائكة وصعبة للغاية تواجه فيها جبلاً من المشاكل العويصة الموروثة من النظام السابق، وتواجه في الوقت ذاته بقايا «دولة الإخوان العميقة» التي تعمل بشكل حثيث ومدروس للعرقلة، وبث الإحباط، ودفع الناس لمواجهة مع الحكومة وليدة الثورة. خذ الأجهزة الأمنية على سبيل المثال، فهي لا تزال تعمل بعقلية النظام السابق، لأنها لم تخضع لا لعملية تغيير شامل، ولا للمحاسبة المطلوبة عن الجرائم الكثيرة البشعة التي ارتُكبت في العهد السابق. كل ما حدث بعد الثورة كان تغيير الاسم من جهاز الأمن والمخابرات الوطني إلى جهاز المخابرات العامة، وكأن ذلك هو الذي سيغير سلوك المنتسبين إليه وعقليتهم، أو نظرة الناس لمؤسسة كانت اليد الباطشة للنظام السابق. هذه الأجهزة فيها بالتأكيد عناصر موالية للنظام السابق، وأخرى تعمل بالعقلية الخربة التي تربت عليها خلال الثلاثين عاماً الماضية، وتغييرها مطلوب، بل مهم للغاية، لسلامة المرحلة الانتقالية. هذا التغيير سيحتاج إلى صبر وحنكة وفطنة، لأن الحكومة تتحرك على أرض لا تزال رخوة، وتراعي حسابات وحساسيات الشراكة المعقدة بين المكونَين المدني والعسكري في هيكل السلطة الانتقالية.
هذا مجرد مثال واحد طرقته، لأن مدخل مقالي كان عن واقعة المطار، لكن هناك أمثلة أخرى كثيرة للغاية عن المشاكل والعقبات التي تواجهها الحكومة في سبيل تفكيك وإصلاح مؤسسات الدولة وتنقيتها من شوائب النظام السابق. لكي تتحقق الطموحات، وهي كثيرة، ويتم التغلب على المشاكل، وهي أكثر، لا بد من الصبر ومساعدة الحكومة على إنجاز أعمالها وبرامجها. ففي أول اجتماع لها حددت برنامجها في عشر أولويات؛ تبدأ بإيقاف الحرب وتحقيق السلام، مروراً بمعالجة الأزمة الاقتصادية المستفحلة، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وإجراء إصلاح قانوني شامل يضمن استقلال القضاء وسيادة حكم القانون، وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة للنظر في كل الانتهاكات التي وُقّعت، بما فيها مجزرة فض الاعتصام، وتعزيز الرعاية والتنمية الاجتماعية، بما في ذلك خدمات الصحة والتعليم والسكن، وتعزيز حقوق المرأة ودور الشباب، ومكافحة الفساد، ووضع سياسة خارجية تحقق المصالح الوطنية وتحفظ سيادة الدولة وأمنها، وانتهاء بعقد المؤتمر القومي الدستوري لمناقشة قضايا الحكم.
هذا برنامج طموح يحتاج إلى عمل دؤوب، وعزيمة قوية. لكنه أيضاً يحتاج إلى دعم الشعب لحكومته والصبر عليها. فالكم الهائل مما يدور في مواقع التواصل السودانية ربما أنسى الناس أن حكومة حمدوك لم تكمل حتى الآن شهرها الأول، إذ عقدت اجتماعها الأول في العاشر من سبتمبر (أيلول) الماضي. إذا استمر الأمر على هذا المنوال، فإنني أخشى أن تكون قلة الصبر العدو الأول الذي يحبط كل ما حققته الثورة.