وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

في النهاية... كل يصدق ما يريد

الكل يتحدث عن زيادة المعروض النفطي من أحواض النفط الصخري في الولايات المتحدة ومن باقي الحقول غير التقليدية في العالم على أنها مسلمات، رغم أن الإنتاج مسألة يحددها سعر النفط والعوامل الاقتصادية المحيطة به أكثر ما تحددها قدرة الآبار على الضخ. وفي حالة النفط الصخري، فإن المسلم به في الواقع أمر مكلف وباهظ الثمن.
لقد عاصرنا طفرة النفط الصخري منذ بدايتها، ورأينا كيف دمر هذا النفط السوق وتسبب في تغيير قواعد اللعبة، وبسببه عانت الكثير من الحكومات وتغير الكثير من الوزراء والسياسات... الخ. وعندما انهارت الأسعار، رأينا كيف أن المنتجين قاموا بأعاجيب للبقاء في السوق وزيادة إنتاجهم، حتى أصبحت الولايات المتحدة اليوم أكبر دولة منتجة متجاوزة روسيا والمملكة العربية السعودية.
ولكن الأبطال الحقيقيين خلف بقاء النفط الصخري مستمراً في الإنتاج ليس الشركات ولا عمال الحفر ولا شركات الخدمات النفطية مثل هاليبرتون وشلمبرغير وبيكر هيوز، بل المصارف والمستثمرون الذين كانوا يضخون الأموال ويقرضون هذه الشركات للبقاء في السوق. ومع ما يحدث اليوم من ضبابية حيال الطلب على النفط وعلى أسعاره، بدأ الجميع يقلل دعمه بشكل كبير لشركات النفط الصخري. وهذا ما أوضحته دراسة حديثة.
وبحسب دراسة مسحية أصدرتها شركة قانونية اسمها «هاينس آند بون»، فإن المصارف لم تعد مهتمة كما كانت في السابق بإقراض شركات النفط الصخري، وهذه ستكون المرة الأولى منذ عام 2016 التي لم تعد هناك قدرة للمنتجين على الحصول على قروض من المصارف بسهولة كما كان الحال سابقاً. وهذا المسح هو العاشر الذي أجرته الشركة منذ عام 2016.
وأظهر المسح أن غالبية المشاركين فيه، والبالغ عددهم 221 شخصاً، يتوقعون أن ينخفض تمويل المصارف لشركات النفط الصخري في العام القادم. وستشكل القروض المصرفية نحو 20 في المائة فقط من مصادر تمويل الشركات، وستأتي غالبية التمويل (28 في المائة) من النقد الناتج عن عمليات هذه الشركات.
وليست القروض هي فقط التي ستنخفض، بل إن الاستثمار المباشر - من خلال شراء حصص ملكية - معرض للانخفاض في العام القادم. ولن تقدم شركات الملكية الخاصة تمويلا بأكثر من 11 في المائة، فيما ستكون حصة السوق المالية في الملكية لهذه الشركات أكثر من 2 في المائة.
في ظروف مثل هذه، سيتعين على شركات النفط الصخري الاعتماد على النقد الناتج من العمليات لتمويل عملياتهم والاستمرار، ولكن هل هذا ممكن مع أسعار نفط تحت ستين دولارا؟ على الأرجح لا... وإذا ما استمر الوضع الاقتصادي عالمياً على ما هو عليه، فإن الطلب لن يكون صحياً بسبب الحروب التجارية التي يشنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
وقد لا يريد الكثير تصديق أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين مؤلمة لشركات النفط الصخري، ولكن هذا هو الواقع بلغة الأرقام. والسبب في ذلك أن أسعار النفط في مستويات منخفضة لا تساعد الشركات الصغيرة على النمو وتحقيق الأرباح، ولا يوجد في الأفق القريب ما يشجع على زيادة الأسعار إذا ما استمر الرئيس الأميركي في حربه.
وبحسب تقرير سابق صادر من شركة المحاماة «هاينس آند بون»، فإن العام الحالي 2019 شهد أعلى نسبة إفلاس لشركات النفط الصخري منذ عام 2016 الكارثي على صناعة النفط. وخلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري، أفلست 25 شركة نفط تعمل في مجال النفط الصخري، مقارنة بإحدى وعشرين شركة خلال كامل عام 2018. ولا يزال هناك احتمالية بزيادة هذا العدد خلال الأشهر المتبقية من العام الجاري. ومع ذلك يظل عام 2016 هو الأسوأ بثماني وخمسين شركة أفلست.
إن ما أنقذ العديد من الشركات في السنوات الماضية، وساهم في الاستمرار في الإنتاج، هو مساعدة الدائنين والمستثمرين الذين ضخوا أموالهم في الصناعة لإبقائها حية، لأنهم في الأصل استثمروا أو أقرضوهم مبالغ كبيرة ولا يريدون أن يخسروا كل ما وضعوه سابقاً. لكن مع طول الأمد، لم يعد المستثمرون والمصارف يهبون بسهولة لإغاثة الشركات كما كان في السابق.
المشكلة هي أن المستثمرين والمضاربين في عقود النفط الآجلة يعتقدون أن الطلب سينخفض، وهو ما يضغط على الأسعار. وهذا الأمر قد يسبب صدمة في المعروض تزيد الأسعار على أثرها.
إن الأرقام التي نراها اليوم لا تدعم أي زيادة في المعروض في العام القادم، ولكن الأسعار تنخفض بسبب مخاوف تزايد المعروض في 2020... ورغم كل الأرقام التي نراها؛ إلا أنه بالأخير الكل يصدق ما يريد تصديقه.