راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

تفوّق على نفسه

كانت «60 دقيقة» مدهشة تماماً، جعلت مقدّمة البرنامج المشهور نورا أودونيل، من محطة «CBS» الأميركية، التي تأبطت مروحة واسعة من الأسئلة على خلفية الاستفزاز، لتطرحها على ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تنتهي باعتراف واقعي وموضوعي:
الأمير محمد قائد جريء وفذ، صاحب رؤية طموحة، وما يفعله من تطوير في المجتمع السعودي سيغيّر منطقة الشرق الأوسط.
لا يحتاج ولي العهد السعودي إلى شهادات، وإن كان الكلام هنا يذكّرنا بتلك المقابلة التي أجراها معه قبل عامين ديفيد إغناتيوس وذهب ليكتب بإعجاب عميق عن «السعودية الجديدة» والورشة التي يقودها الأمير الشاب، والتي ستغير وجه المملكة والمنطقة. منذ ذلك الحين إلى اليوم تسابق السعودية الوقت في القفز نحو المستقبل الحداثي التطويري والتنموي والرؤيوي، الذي لطالما تحدث عنه الأمير محمد، وهو يشرح مسلسلاً من المقابلات والبرامج الطموحة التي يضعها مع فريق من الشباب، لتنفيذ «روية السعودية 2030» وتخطيط «مشروع نيوم»، والانكباب على ورشة تطوير عصري شاملة، تتناسب ليس مع قوله لإغناتيوس قبل عامين «حدودنا هي السماء» فحسب، بل لتثير حماسة هائلة في المجتمع السعودي الشاب، حيث إن 70% من تعداد المملكة هم من الشباب!
كانت مصادفة مثيرة أن تتلاقى تقريباً فصول المقابلة مع برنامج «60 دقيقة»، مع ذلك الحفل الذي حضره ممثلون من أقطار العالم، للاطلاع على قرار المملكة حول البدء بإصدار تأشيرات سياحية إلكترونية، والذي اختير له عنوان مدهش فعلاً، فالمملكة العربية السعودية تقول: «أهلاً بالعالم... قلوبنا مفتوحة قبل أبوابنا».
لكن المسألة في عمقها وبعدها تتجاوز السياحة الذكية إلى السياسة الذكية، وهو ما يعيدنا تواً إلى مقابلة ولي العهد مع شبكة «CBS»، التي تفوّق الأمير محمد خلالها على نفسه، من خلال تأطير مواقف سياسية مهمة جداً وحاسمة جداً لا لمصلحة السعودية، وحدها بل لمصلحة المنطقة والعالم، قياساً بالمواقف التي أعلنها حيال مشكلات المنطقة وانعكاساتها على المستوى الدولي.
كان حازماً وصريحاً عندما بادرته أودونيل فوراً بالسؤال: هل أمرت بقتل جمال خاشقجي؟ ليقول: «بلا شك لا، ولم أعلم بتلك العملية، لكنني أتحمل المسؤولية كقائد في المملكة العربية السعودية، خصوصاً أن الحادث من مسؤولين سعوديين. حدث خلل ولا بد لي من اتخاذ كل الإجراءات لتجنب مثل هذا الشيء في المستقبل، وبمجرد إثبات اتهامات ضد أي شخص، على أي مستوى، سيحاكم من دون استثناء».
لكن رؤية القائد السياسية البارعة سرعان ما ستبرز عند الحديث عن الملفات الإقليمية الساخنة والعلاقات الدولية الساخنة، فرغم تحميله الإيرانيين مسؤولية الهجوم على منشأتي النفط التابعتين لـ«أرامكو»، وقوله إن الإيرانيين أثبتوا أنهم حمقى، فإنه شدد على ألا يكون الرد على إيران عسكرياً، لأن الحل السياسي والسلمي أفضل بكثير من الحل العسكري، وفي هذا رؤية ومسؤولية وحكمة، فليس من العقل إشعال النار فوق بحيرة نفط العالم، والأمر هنا لا يتعلّق بالسعودية وحدها بل بالعالم أجمع.
الحكمة والتروي، لأنه إذا حدثت حرب بين السعودية وإيران من المؤكد أن العالم كله سيتضرر، فالمنطقة تؤمّن تقريباً 30% من إمدادات النفط في العالم، وتسيطر على 20% من المعابر التجارية العالمية، ونحو 4% من الناتج الإجمالي العالمي، ويكفي أن نتخيّل أن هذه العناصر الحيوية للاستقرار العالمي تتوقف، أوليس هذا يشكّل انهياراً للاقتصاد العالمي لا للسعودية فحسب ولا حتى لدول الشرق الأوسط؟
ولكن السؤال في المقابل: هل هناك في إيران، مَن يملك حس المسؤولية حيال كل هذا؟ أوليست إيران هي التي تمضي في الاستفزاز وإشعال الحرائق والتدخلات المزعزعة للاستقرار في هذه المنطقة الحيوية لأمن العالم، ومن خلال هذه التساؤلات يبرز حس القيادة المسؤولة كما تبرز حكمة المسؤول، ولهذا ورغم الهجوم الإيراني على «أرامكو» ومواصلة طهران تأجيج الحرب في اليمن، عبر دعمها الانقلابيين الحوثيين وهو ما تعلنه مراراً وصراحة، تأتي تصريحات ولي العهد السعودي لتثبت أين تكمن الرؤية المسؤولية العاقلة، فليس المطلوب إشعال النار في الاستقرار الاقتصادي العالمي. ومجرد التوقف عند هذا المعطى الحيوي والمهم يبرز الفرق بين من يريد البناء والتطوير وحفظ السلام ومن يمضي في سياسات التخريب والتصعيد.
ولكن رغم تفضيله الحل السياسي للأسباب الآنفة الذكر، فإنه تعمّد أن يضع العالم عند مسؤولياته، لأنه بالتالي إن لم يتخذ العالم موقفاً قوياً من شأنه أن يردع إيران ويوقف تدخلاتها، فسنرى المزيد من التصعيد، وأن من شأن هذا أن يعطّل إمدادات النفط وسترتفع أسعار الطاقة إلى أرقام خيالية من شأنها تعطيل عجلة الصناعة الدولية، ولأن مصلحة العالم تكمن هنا، فمن واجب العالم عملياً ردع إيران ووضع حد لحرائقها.
مرة أخرى يتفوق الأمير محمد على نفسه لجهة الروية والمسؤولية، فهو لا يراهن على تأجيج الخلاف بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني، كما قد توحي القشرة الخارجية للمصالح، بل إنه ذهب إلى العمق عندما قال إن على الرئيس دونالد ترمب أن يجتمع مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، لصوغ اتفاق جديد بشأن البرنامج النووي الإيراني وضبط نفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما يتلاقى طبعاً من الشروط الـ12 التي سبق أن أعلنها الوزير مايك بومبيو لوقف العقوبات والذهاب إلى اتفاق جديد مع الإيرانيين.
الأمير محمد ذهب في إبراز تمسكه بسياسة التفاهم ووقف النزاعات والبناء على مستقبل مستقر وطموح، فلم يتردد في أن يجدد توجيه دعوة من المملكة العربية السعودية إلى إيران لوقف دعم قوات الحوثيين في اليمن، مذكّراً بأن الحرب هناك كانت من أجل دفع الحوثيين إلى طاولة التفاوض، قائلاً إن المملكة منفتحة على كل المبادرات بهدف التوصل إلى حل سياسي لإنهاء الحرب اليمنية، ولعل هذا ما اضطرّ رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني إلى الرد بالقول إن طهران ترحب بما نُقل عن رغبة ولي العهد في حلّ القضايا بالحوار.
مرة جديدة بدا الأمير محمد حارساً للأمل والتطوير الحداثي وترسيخ مستقبل المملكة في حدود «رؤية 2030» ورسم الأفق الواسع أمام شباب السعودية الذين يريدون فعلاً أن تكون حدودهم السماء، ولهذا عندما سألته مندوبة التلفزيون: ما الدروس التي تعلمتها؟ وهل ارتكبت من أخطاء؟ كان جوابه بديعاً: «الأنبياء يخطئون فكيف لنا كبشر ألا نرتكب الأخطاء، المهم أن نتعلّم منها ولا نكررها».