طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

من أجل حفنة «دولارات»

لا يعترف - عادة - المبدع بأنه تحت ضغط الحاجة اضطر مثلاً إلى أن يقدم هذا الفيلم، أو كتب أو لحَّن تلك الأغنية. كثيراً ما يحرص على أن يعلن أمام الرأي العام، أنه مهما كانت لديه من التزامات، فإنه يعتبر الإبداع منطقة محرمة، لا يسمح فيها تحت أي ضغط بأن يجبره أحد على تقديم ما يصفونه عادة بالتنازلات.
على الجانب الآخر، هناك مبدعون كبار اعترفوا بأن الاحتياج كان سبباً كافياً للإبداع، مثلاً الروائية العالمية أجاثا كريستي، تلك الأسطورة التي تحتل المرتبة الثانية في أرقام توزيع وترجمة أعمالها بعد وليم شكسبير، لم تجد أي غضاضة في إعلان أنها عندما اكتشفت أن شرفة منزلها في حاجة إلى إصلاح، شرعت في كتابة رواية جديدة، وأنها كثيراً ما فعلت ذلك من أجل المال.
روى الكاتب والشاعر عبد الرحمن الخميسي، أنه وجَّه دعوة العشاء للموسيقار بليغ حمدي، واكتشف عندما جاءته «الفاتورة» أنه لا يملك أموالاً كافية، فكتب للمطربة مها صبري التي شاهدها هناك، مطلع «ما تزوقيني يا ماما» ولحّن بليغ المقدمة، واستدعاها ليسمعها اللحن، وصارت واحدة من أشهر أغنيات الأفراح في مصر، ودفعت مها ثمن الأغنية، وسدد الخميسي ثمن «الفاتورة».
عدد من أفلام المخرجين الكبار في سنواتهم الأخيرة، لم تتوفر لها مقومات الإبداع الذي تعودوا عليه، ووافقوا عليها لمجرد إثبات الوجود، أو لحاجتهم للمال، من بينهم المخرج عاطف سالم، صاحب كثير من الإنجازات الفنية، مثل «جعلوني مجرماً» و«أم العروسة»، و«النمر الأسود» وغيرها، لم يكن عاطف راضياً عن بعض أفلامه، مثل «توت توت»، كان يرى أن نبيلة عبيد بطلة الفيلم، والتي تؤدي دور امرأة متخلفة عقلياً، لا يمكن أن تمثل الشخصية وهي تضع كل تلك المساحيق على وجهها، والتي تتناقض مع كونها فقيرة وتنام في الحارة تحت العربة «الكارو». نبيلة أصرت على وضع «المكياج» لتبدو في كامل جمالها، ولم تستجب لرأي المخرج، ورغم ذلك حظي الفيلم بكثير من الجوائز التي استحوذت عليها بطلة الفيلم.
هناك مبدع حرفي، وهذا لا يعني أنه ليس موهوباً، فهو يمتلك قدرة خاصة تؤهله للإنجاز السريع. ومن الممكن عقد مقارنة لتلمس الفارق بين الملحنين الكبيرين محمد الموجي وكمال الطويل. لو حسبتها رقمياً فستكتشف أن عدد ألحان الموجي تربو على ثلاثة أضعاف ما لحنه الطويل، رغم أنهما من أبناء جيل واحد؛ بل ولدا في العام نفسه 1923. الموجي تعود أن ينام وبين يديه نص غنائي وبجواره العود، حتى أنهم يقولون إن الموجي يستيقظ ويجد اللحن تحت وسادته، بينما كمال الطويل لا يجلس إلى البيانو إلا ولديه جملة موسيقية تطارده، وكثيراً ما كان يتردد بعدها في تسجيل اللحن، والذي كان يحسم الموقف في بداية الرحلة الفنية، رفيق المشوار عبد الحليم حافظ، وكما وصفه الطويل أن حليم جهاز تسجيل متحرك، ليكتشف الطويل بعد سماعها كم هي جملة موسيقية رائعة وتستحق التنفيذ.
لا تستطيع أن تضع قاعدة مطلقة. عمر الشريف كثيراً ما صرح بأنه قد يقبل المشاركة في أفلام لحاجته إلى المال، بينما هناك عشرات يفعلون ذلك، ثم يعلنون في «الميديا» أنهم من المستحيل أن يتنازلوا عن الإبداع من أجل حفنة «دولارات».