حازم صاغية
مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي.
TT

عن ثوريين يكرهون الثورات...

مع مظاهراتِ العراق ارتفعت أصواتُ ممانِعة تستدرك وتحذِّر. ثمة من يتحدث عن وجود «أصابع أميركية» تقف وراء المظاهرات، وثمة من نبَّه إلى «أجندات خفية» تحركها، وبالطبع استُنجد بـ«المتسللين» المزعومين من أهل «الطابور الخامس».
الموقف هذا ذكر بعض المراقبين بموقف الأصوات نفسها من الثورة السورية: في بداياتها الأولى، خجلٌ وارتباك مصحوبان بدعوة النظام إلى الإصلاح. ذاك أن الإصلاح، بغض النظر عن مضمونه ووجهته، يقوي النظام ويهدئ الاحتجاج. لكنْ، ومن دون أن يبادر الأسد إلى أي إصلاح جدي، تصاعدت وتيرة نقد الثورة الذي صار نقضاً: تشكيكٌ فاتهامٌ فتخوينٌ فدعمٌ للتدخل المسلح ضدها وتحريض عليه.
إلى الذاكرة القريبة حضرت أيضاً صفة «ثورة الناتو» في وصف الثورة الليبية، وهناك مَن عاد سنتين أخريين إلى الوراء ليسترجع «الثورة الخضراء» في إيران عام 2009 التي وصفها الممانعون أنفسهم بالمؤامرة على شعب إيران.
نضع جانباً الخمينيين في تنويعاتهم الكثيرة، وبعض القوميين العرب والبعثيين، ممن هم امتداد طبيعي للنظامين الإيراني والسوري. نضع جانباً أيضاً الانتهازيين والوصوليين على أنواعهم ممن يعرفون أين تكمن مصالحهم وكيف يخدمونها على الوجه الأحسن. نتوقف، هنا، عند مَن ينسبون أنفسهم إلى «يسار ثوري» ما، يسارٍ يزعم تغيير العالم ولا يقف إلا معارضاً لكل تغيير.
هؤلاء، على قلتهم النسبية، شكلوا ويشكلون الصوت الأعلى في تنظير الممانعة وفي تزويدها بحجج من صنفين: صنف يجوب العالم كي يؤكدَ صحة موقعه «الاستراتيجي» إلى جانب فلاديمير بوتين والراحل شافيز، وصنف يُبحر في التجارب السابقة ليكتشف أن موقفه إنما يقيم في خط التاريخ الصاعد أبداً.
لكنْ بالنتيجة، هناك شيء واحد اختلف: لقد باتت الثورات، المعشوقة دوماً، والتي منحت الثوريين اسمهم، شيئاً كريهاً ومُستقبَحاً. إنهم، وللغرابة، صاروا ثوريين مناهضين للثورات!
ذاك أن الأخيرة، وفق تعريف غريب يختصون به، ليست طلباً للحرية والكرامة والخبز. إنها، قبل أي شيء آخر، اصطفاف في الصراعات الدولية يضع البلدان المعنية في مواجهة أميركا.
إن بعض من درسوا تحول الاتحاد السوفياتي من بلد الثورة إلى بلد المحافظة المناهضة للثورة لاحظوا دور هذا التغليب للعناصر الجيوبوليتيكية والاستراتيجية وراء ذلك. لكنهم لاحظوا أيضاً الدور الثقافي المترتب على ذاك التغليب. ذاك أن العداء للغرب لا يلبث أن يفيض عن السياسة إلى الثقافة والأفكار وطريقة الحياة.
عندنا، وكمُصغر هزيل لذاك التأويل الأعوج، الذي هو في أحسن حالاته بالغ الجزئية، يستند التحول إلى مرارات ثلاث: مرارة مفادها انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه والعجز عن تعويض الفقيد، ومرارة أخرى مؤداها تغير معنى الثورات الذي بدأ قبل ثلاثة عقود. فهناك في أوروبا الوسطى والشرقية، حين سقطت دزينة من الأنظمة، لم تعتمد الثورة العنف، ولا قادها مكتب سياسي على رأسه زعيم، ولا دعت إلى تدمير طبقة بعينها، فيما اختارت هدفاً لها الديمقراطية والتصالح مع الغرب ونموذجه (وبالمناسبة، وعلى عكس زعم ثوري رائج، يصعب أن يدعي المرء الديمقراطية إلى هذا الحد فيما يكون معادياً لمهد الديمقراطية إلى هذا الحد).
إلى ذلك، دفعت في هذا الاتجاه مرارة ثالثة محلية المصدر: إن الثورات لم تعد تُقر الطريقة القديمة في إدارة النزاع مع إسرائيل. ذاك أن النهج المذكور يُلحق قضايا الأوطان جميعها بتلك القضية الواحدة. هكذا يصار إلى تجويف المجتمعات وقهرها وإفقارها وتحكيم المستبدين بها بذريعة القتال ضد الدولة العبرية. في المقابل، تستحضر الثورات بمجرد قيامها تعددية تكسر الاحتكار الأحادي لـ«الثورة»، وتهجس بتعزيز المجتمعات العربية وحرياتها. بهذا، أي بتقوية تلك المجتمعات، يقوى الموقع التفاوضي العربي مقابل إسرائيل، وترتفع جاذبية العالم العربي في العالم.
مع الثورة الواحدة يتحكم نظام أو نظامان في حياة الملايين، ومع الثورات الكثيرة تتحرر حياة الملايين من تحكم النظام أو النظامين.
تلك المرارات في مجموعها تنمُّ عن رغبة عميقة في استعادة عالم الحرب الباردة ومعادلاتها. هنا تصحُّ النظرية التي تقول إن الثورية لون من المحافظة المتطرفة التي تريد العودة إلى «ما كان»، أو ما قيل إنه «كان». ما يضاعف هذا الميل العميق جرعة قومية قوية في مُجمع الأفكار الثورية العربية، جرعة ترسم الطريق إلى المستقبل بوصفها طريقاً إلى «الأصالة» و«الجذور»، وحنيناً إلى ما قبل الغرب وما قبل وفادته إلى منطقتنا. من هذه الطينة أيضاً قُدت ثورة إيران الدينية، التي ناوأت حريات النساء والإصلاحات الزراعية، ومن هذه الماضوية إياها غرف ثوريون علمانيون ما لبثوا أن رأوا في ثورة الخميني، لا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ما يسدُّ مسدَّه.
لكن أهم الأسباب التي تدفع أولئك الثوريين إلى الوقوف ضد الثورات أنهم أصبحوا جزءاً، ولو ثانوياً، من سلطة الأمر الواقع. إنهم الحاشية الضرورية لمنظومة الحكم التي يتربع في قمتها الولي الفقيه فيما ينتفض في وجهها شبان العراق بعدما انتفضت أكثرية الشعب السوري.