سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

بغداد التي تمزق ثيابها غير العربية

عاش صدام حسين سنوات من حياته لاجئاً سياسياً في القاهرة، وكان يسكن حي الدقي الراقي في قلب العاصمة المصرية، وكان دائم التردد على مقهى بعينه من مقاهي الحي، وقد جاءت عليه أوقات عانى فيها مادياً، فكان القهوجي يراعي ذلك في حساب المشاريب التي كان يتناولها!
وقد نشأت صداقة بينه وبين القهوجي، الذي كان يقدم له ما يطلبه، ولكن «على النوتة» كما يقول المصريون، أي أنه كان يسجل مشاريبه التي لا يسدد ثمنها، وكان ذلك يتم إلى حين ميسرة، وعلى أساس أن صدام سوف يدفع حين يتيسر الحال!
وجاء وقت عاد فيه اللاجئ السياسي إلى بلاده، ثم جاء وقت آخر تولى فيه حكم العراق، فلما تذكر ديونه في مقهى الدقي، طلب من السفارة العراقية في القاهرة أن ترسل مندوباً منها إلى الرجل بمبلغ من المال، ليس فقط على سبيل الوفاء بالديون القديمة المستحقة عليه من أيام اللجوء السياسي، ولكن على سبيل مكافأة القهوجي على طول باله، وعلى صبره الذي لم ينفد مع لاجئ بقي وقتاً يعيش على النوتة!
ومن الواضح أن القهوجي كان رجلاً بسيطاً لا يتابع أحوال السياسة ولا يهتم بها، ولا يعرف بالتالي إلى أين وصل صدام حسين، ولا ماذا حدث من تطور درامي في حياته بعد أن غادر القاهرة!
فما إن جاء مندوب السفارة إلى المقهى، وما إن سلم الرجل مبلغ المال في يده، حتى صاح المسكين في براءة وتلقائية: هو صدام بيه وجد عملاً؟!
كانت فكرة الرجل عن «صدام بيه» أنه عاطل يبحث عن عمل، وكان سؤاله المباشر بمجرد أن أخبره المندوب أنه قادم من طرف فلان، عما إذا كان فلان هذا الذي كان شبه مقيم في مقهاه بلا أمل ولا عمل، قد وجد عملاً، أم أنه لا يزال عاطلاً كما عاش يعرفه دائماً؟! هذه قصة واقعية جرت في ستينات القرن الماضي، وعندما نتذكرها هذه الأيام، ونحن نتابع خروج شباب العراق في مظاهرات عنيفة، بحثاً عن فرصة عمل، فإننا ننتبه على الفور، إلى أن «صدام بيه» الذي عاش يبحث عن عمل قد وجد عملاً في قصر الرئاسة، ولكنه مارس من السياسات من بعدها، ما ضيع كل فرصة عمل على شباب بلاده، وربما على شباب في غير بلاده كانوا يجدون عملاً فيها، فعاش شباب العراق سنين بين الأمل والرجاء، إلى أن غلب اليأس على الأمل والرجاء، فخرجوا غاضبين لهذا السبب، ولأسباب أخرى بطبيعة الحال!
وليست الأسباب الأخرى سوى رفض كل وصاية إيرانية على بلادهم، وسوى رفض الفساد الذي جعل بلدهم، الذي هو البلد الثاني في دول «أوبك» المصدرة للبترول، يواجه نقصاً في الماء وفي الكهرباء، ويعاني أهله كما يعاني الناس في الدول التي لا تعرف النفط ولا يعرفها!
يرفض العراقيون الغاضبون حجم الفساد الذي أكل ثروات البلاد، بمثل ما يرفضون كل إملاء إيراني على القرار في بلادهم، فالعراق عاش دولة عربية وسوف يظل، وكل الذين يحاولون فرض وصايتهم عليه وعلى إرادته من طهران، يتجاهلون أن عربيته تجري في دمه، وأن قوميته تعيش في خلايا جسده، وأن هذا الشباب الثائر في بغداد، وفي الناصرية، وفي غيرهما من المدن العراقية، قد استفزه الفساد الذي تنتشر قصصه وحكاياته في كل ركن. ولكن التجاوز الإيراني في حق كرامة بلاده، قد استفزه بأكثر مما استفزه الفساد نفسه، وبأكثر مما استفزه الفاسدون أنفسهم، وبأكثر مما استفزه الذين يفاصلون ويساومون حول عربية البلد، وحول هوى أصيل له لا يعرف غير الانتماء إلى المحيط العربي!
وذات يوم قريب كان وزير الثقافة الإيراني السابق في زيارة إلى العاصمة العراقية، فجلس يفاخر بأن نفوذ بلاده قد صار مهيمناً في أربع عواصم عربية، وأن هذه العواصم هي بغداد، وبيروت، ودمشق، وصنعاء. ولم ينتبه الوزير الإيراني إلى أن ما يقوله حتى ولو كان يعبر عن حقيقة في جزء منه، فإنه أمر يبقى فوق طاقة كل عراقي على الاحتمال، وكذلك فوق طاقة كل لبناني، وفوق طاقة كل سوري، وفوق طاقة كل يمني، مهما طال الوجود الإيراني في العواصم الأربع، وتمدد وتحصن، ومهما قفزت حكومة المرشد فوق الحقيقة الثابتة التي تقول إن هذه عواصم عربية خالصة!
وهناك أشياء أخرى تظل بالطبع فوق طاقة كل عراقي، ليس أولها أن يكون العراق ثاني دول «أوبك» في تصدير النفط، ثم يمارس ساسته من السياسات ما يجعل أبناءه عاجزين عن العثور على كوب ماء نظيف، وعن العثور على «فولت» من الكهرباء يضيء ظلام الليل، ولا آخرها أن يكون العراق هو بلد الرافدين، دجلة والفرات، ثم يكون هذا هو الحال المعيشي في حياة الغالبية من العراقيين!
فالذين ثاروا وتظاهروا في الشوارع والميادين، لم يفعلوا ذلك ضد الجيش العراقي، ولا ضد الشرطة العراقية، وكانوا واضحين في ذلك تماماً في كل بيان صدر عنهم، ولكنهم فعلوه ضد الساسة الذين بددوا ثروات البلد، والذين ساوموا على الانتماء العربي للبلد، والذين أهدروا كل إمكانات بلد هو من الأغنى على مستوى المنطقة، في الثروات الطبيعية، وفي الأرض الخصبة التي تمتد على جانبي الرافدين، وفي الرافدين اللذين يشقان الدولة من أقصاها إلى أدناها، ويجريان بالماء العذب من الموصل في الشمال إلى البصرة في الجنوب!
الذين ثاروا أرادوا أن يقولوا إن ثروات النفط، والأرض، والنهر، لا بد من أن تصادف ترجمة حية في حياة الناس، فإذا لم تصادف المعنى المباشر الذي لا لف حوله ولا دوران، فليس لهذا من معنى سوى أن الذين تقع عليهم مسؤولية توظيف موارد الوطن لصالح أهله، ليسوا قادرين على النهوض بالمهمة، وليسوا أمناء عليها، وليسوا حتى مؤهلين لأن يكونوا على قدر المهمة الملقاة على كاهل كل واحد فيهم!
الذين ثاروا أرادوا أن يقولوا إن العراق الذي يعيشون فيه، ليس هو العراق الذي يجلس على حضارة نادرة بين حضارات التاريخ، ولا هو العراق الذي جاء عليه يوم أعلنت فيه منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، الشهيرة بـ«اليونيسكو»، أن نسبة الأمية بين مواطنيه قد صارت صفراً!
الذين ثاروا رغبوا في أن يبعثوا رسالتين: إحداهما إلى الخارج في إيران، وتقول إن بغداد عاشت تاريخها عربية وسوف تبقى، لا فارسية بأي حال، وإن كل تجاهل لهذه الحقيقة هي سباحة ضد تيار يجرف في النهاية ما يعترض سبيله. والرسالة الثانية إلى الداخل وتقول إن الذين تولوا مسؤولية الحكم في البلاد لم يكونوا على قدر المسؤولية، وكانوا أقل من ظن العراقي فيهم، وكانوا لا يملكون الوعي الكافي باللحظة، ولا يدركون القيمة التي يمثلها بلد نشأت على أرضه الحضارة أول ما نشأت في العالم!
بغداد الثائرة تعلن أن ثيابها عربية، وأنها سوف تمزق كل ثياب غير عربية!