فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

«جوكر»... عنف انبعاث السوداوية الخارقة

مع كل الغنى السينمائي والآثار والوشوم التي تطبعها أفلام تاريخية خالدة، غير أن الندرة تكمن في الفيلم المشكل المخاتل الموقظ في خيال مشاهده أسئلة فوضوية ونقاشاتٍ حيوية، يغدو أثر الفيلم هو الموضوع.
نجح «جوكر» بأكثر من ذلك، وعبر شخصية مشحونة بالنوبات، ومفعمة بالصخب النفسي، ومرعوبة من حالها الوجودي تنبعث إحراجات بصرية ونفسية وجماليّة مرعبة، خواكين فينيكس وبعبقريته الفذة لم يجسّد شخصية «مضطرب مجرم» كما في أفلامٍ أخرى، وإنما صبّ في الصورة كتلاً من الدوافع المتناقضة التي لم تفصح عن تصرفٍ متوقع، وإنما فرضت استفهامات ونبوءات لحظية، لا تدري كيف يمكن لدافعٍ أن يبعث على هذا الفعل في تلك اللحظة، ولذا تقطّعت السردية في المشهد والنص، إنه مزيج من جنون الفهم لفكرة الفيلم بين المخرج تود فيليبس والبطل خواكين.
والحكم على العمل الفني لا يعطيك فرصة النجاة منه. حتى في حال الرفض إنما يكون الرد قوياً حين تكون تحديات النار التي رماها بين قدميك أصعب من توقيها. وعادة التقييم لدى البعض أن يرفض بشدة حتى يميز نفسه عن الثناء المبثوث في الفضاء، اتخذ الرفض سمة نخبوية، بينما العمل الفني ليست من مهامه رعاية الحقيقة، فالفن لا يبث رسالة ولا يرسل فكرة يتراوح الحكم عليها بين القبول والرفض، وإنما يمكّنك من الغوص في فضاءٍ ممتد له وميض، لا ينتظر منك الفن أن تصوّب أو تخطّئ وإنما بالدرجة الأولى أن تستمتع، أن تختبر خيالك، أن تجدد من التماعاتك الذهنية، ورهاناتك الوجودية، وأن ترفع مستوى الذوق الذاتي، يصح هذا على مجالات الفنون الكثيرة، ومنها السينما، وما يرى أنه بثّ ورسالة من العمل الفني هو ما استقبلته أنت وفهمته من هذه الشفرة، أو تلك العلامة، أو ذلك الوميض. أي عمل فني يبدو للمشاهد مباشرة أنه متضمن رسالة إنما يفقد وصفه الفني وينزلق إلى مجالات الآيديولوجيا.
لكل فيلم جمالياته، كما ينطلق جام أمون وآلان برغالا في كتاب «جماليات الفيلم»، وليس شرطاً تجسيد الجمال بالمعنى المثير، أو الصورة النظيفة، أو المشهد الإنساني اللطيف، فتجسيد الشخصية بكل انبعاثاتها البشعة، وتصعيدها الوجودي القميء إنما يعد جمالاً في الفيلم لحظة التحدث عن أثره ومتعته. حين اخترع خواكين رقصته على السلالم وهو يهم بنثر دماغ شخصٍ على الجدار، أو وسط النور الأبيض بضحكاته المضطربة في نهاية الرحلة، إنما يصنع شكلاً للسوداوية المفرطة، ويضع للعدمية أقصى تجسيداتها الواقعية، وما كان الجرم محدداً لهدف، ولا الهروب خطة لنجاة، وإنما جاءت الرقصة لتلطيف حالة التوحش وقد صعّدت الشخصية من حدتها لتصل إلى الذروة في حادثة الخنق بالمشفى، كوميديا عدمية تدفع الجمهور في القاعة للضحك الشديد بعد لحظاتٍ من جريمة قتلٍ. سوداوية خارقة.
والعمل الفني ينتج أثراً، ولكنه لا يصنع حقيقة، ولذا خفضت الفلسفة جناحها لفهم السينما بعد انجلاء هيمنة الميتافيزيقيا وتغير مستوى أهمية الحقيقة وتفجّر النظريات عن حقولٍ ومساراتٍ ودروبٍ أخرى، أصيبت الفلسفة بعمى عن الجزئيات بسبب الكليات، وحرمها المتن من الإطلالة على الهامش، وما كان لها من اهتمامٍ يتماسّ مع السينما إلا في درس الضحك لدى كيركجارد والصورة عند بيرغسون، وامتداد بحوث الجمال منذ أفلاطون وحتى غادامير.
في الفضاء السينمائي فرصة رصد الشهب، أو العثور على وثائق متناثرة كما يفضل فوكو، أو مساحة لاقتناص مفهوم دائم التشكل ولا يخلو من ممارسة مخاتلاته الدلالية كما يطمح دلوز، أو درس «الأثر» كما في عدة جاك دريدا. فالسينما لا تقدم علماً وإنما تطرح كومة من التغذية للإمكانات والاحتمالات. ولكن لا يمكن لفيلم ما أن يوصف بـ«الفيلم الفلسفي» بهذه المباشرة الحادة، مع أن مايكل ليفين وداميان كوكس يدافعان عن ذلك في كتابهما «السينما والفلسفة»، ويؤيدان ذلك استناداً لما يقوله موراي سميث: «إن قدرة الأفلام على أن تصبح، من منظور عام، فلسفية أمرٌ لا خلاف عليه نسبيّاً في رأيي. تلك حقيقة لا تبعث على الدهشة إذا نظرنا إلى كلٍّ من السينما (بوصفها شكلاً فنيّاً) والفلسفة كامتدادات لقدرة البشر على الوعي بالذات؛ أي قدرتنا على تأمُّل أنفسنا».
واتخذت السينما أداة تجلية في علم النفس كما يقترح سكيب داين يونغ في كتابه «السينما وعلم النفس»، وفيه يعتبر «أننا عندما نشاهد فيلماً، نتماهى مؤقتاً مع الكثير من شخصياته أو حتى مع جميعها. وقد نتماهى مع نبرة الفيلم أو أسلوبه، بيد أن معظم تلك الخبرات، شأنها شأن الذكريات، سريعة الزوال. ومن حين لآخر، نقع على فيلم نتماهى معه بقوة إلى درجة أننا نغدو واعين بذلك، ونستمر في التماهي مع أحد جوانبه (أو على الأقل مع ذكرياتنا عنه) لفترة طويلة بعد انتهاء مشاهدته. عند هذه النقطة، تصير ذكرياتنا عن الفيلم جزءاً من هويتنا».
أثر «جوكر» أنه فتح الاحتمالات، ومنع ذوي الأحكام التقليدية من استخدام معيارهم الآيديولوجي المرتحلين به إلى المجال الفني، فالأعمال المختلفة تفرض نقاشاتٍ أكثر حيوية من الأقوال التلقائية من دون مواجهة شجاعة لإحراجاتٍ تومض مثل عيني سَبُعٍ في جوف الظلام.