سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

سيد أنقرة العاجز عن مواجهة الناس

لا تملك سوى أن تضحك بينك وبين نفسك، وأنت تقرأ في الأخبار أول هذا الأسبوع، أن فرنسا وألمانيا تحذران من عواقب استمرار الهجوم التركي على الشمال السوري؛ لأنه يمكن أن يؤدي إلى هروب 800 شخص من أفراد عائلات عناصر تنظيم «داعش». فهؤلاء محتجزون في مخيم يضم لاجئين هناك، واندفاع الهجوم الذي لا يعبأ في سبيله بأي تحذير، سوف يفتح أمامهم الطريق إلى حيث لا ندري في أرجاء المنطقة!
ولكن الضحك سيكون بالطبع «ضحكاً كالبكا» على حد تعبير شاعرنا القديم، الذي راح يتكلم عن أمور في مصر في مرحلة ماضية من تاريخها، ويصفها بأنها تثير ضحكاً ليس كالضحك الذي نعرفه!
أما السبب فهو أنه في اللحظة التي صدر فيها هذا التحذير الثنائي، عن العاصمتين الأوروبيتين الكبيرتين، كانت «قوات سوريا الديمقراطية» التي تشتهر باسم مختصر هو «قسد»، تتحدث عن فرار عناصر التنظيم المحتجزين في مخيم عين عيسى الواقع تحت سيطرتها شمال سوريا!
وقبل أن تعلن عن ذلك، كانت في وقت سابق قد أصدرت ما يشبه التحذير الفرنسي الألماني، عندما قالت إن سيارة مفخخة قد انفجرت بالقرب من سجن يضم عناصر من «داعش» في مدينة الحسكة، وهي المدينة الواقعة في المنطقة ذاتها التي يقام فيها مخيم عين عيسى!
ولا نزال نذكر كيف أن ضجة إعلامية كبيرة قد قامت قبل فترة، عن «دواعش» بالآلاف محتجزين في منطقة الشمال الشرقي السوري، وكيف أن الدول التي ينتمون إليها قد رفضت استقبالهم، ثم كيف أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد هدد علناً بإطلاق سراحهم، إذا لم تتسلمهم الدول التي يحملون جنسياتها!
وقد استغرقت الضجة وقتها ثم هدأ غبارها تماماً، شأنها شأن كثير من الضجات المماثلة، ولم نكن نعرف إلى يوم انطلاق الهجوم التركي، أن «الدواعش» المحتجزين لا يزالون هناك في أماكنهم ينتظرون، رغم أن بينهم نساءً وأطفالاً، كما فهمنا وقت إثارة الموضوع!
والسؤال هو: هل إطلاق مثل هذه العناصر في أنحاء المنطقة من جديد، واحد من أهداف هذه الهجمة التركية على الشمال السوري؟! وهل هناك بالتالي أهداف مخفية وراء الهجوم، بخلاف الأهداف التي تتحدث عنها أنقرة منذ اليوم الأول؟!
إن الهدف المعلن لعملية «نبع السلام» كما يسميها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، هو خلق منطقة عازلة أو آمنة بين بلاده وبين سوريا، بعرض 500 كيلومتر وعمق 30 كيلومتراً، لعل ذلك يتيح أمامه مساحة من الأرض تستوعب اللاجئين السوريين في تركيا، الذين بلغ عددهم ثلاثة ملايين و600 ألف، على حد تعبيره وهو يخاطب الاتحاد الأوروبي، ويُلوّح بورقتهم في وجهه، ولعل ذلك أيضاً يفصل بين الأكراد السوريين وبين الأكراد الأتراك الذين يمثلون صداعاً في رأسه لا يتوقف!
هكذا يصور إردوغان الأمر أمام العالم، وهو تصوير من جانبه قد يكون صحيحاً في جزء منه، ولكن هذا لا ينفي أن تكون لديه أهداف أخرى، وأن تكون هذه الأهداف لها صلة مباشرة بعلاقته القديمة المتجددة مع عناصر من التنظيم، كانت تطير إلى بلاده على مرأى من العالم، وكانت تعبر منها إلى شرق سوريا وشمالها مرة، ثم إلى غرب العراق مرات!
ولا يشرح أبعاد مثل هذه العلاقة شيء، قدر ما يشرحها التصريح اللافت الذي نشرته صحيفة «أحوال» التركية آخر أغسطس (آب) الماضي، على لسان أحمد داود أوغلو، الذي كان إلى وقت قريب رئيساً لوزراء تركيا، ووزيراً لخارجيتها، وكان أيضاً فيلسوفاً لحزبها الحاكم، والأكثر من هذا كله أنه كان لسنوات من أقرب الساسة إلى قلب وعقل سيد أنقرة نفسه!
ولو كنا نعيش في مجتمع دولي جاد، ولو كان هذا المجتمع الدولي ينهض بمسؤوليته تجاه قضية الإرهاب كما يجب، لكان ما نشرته الصحيفة موضع تحقيق يتناسب مع خطورته؛ خصوصاً أن صاحب الكلام ليس شخصاً عابراً، ولكنه كان كذا وكذا في أنقرة ذات يوم!
قال أوغلو للصحيفة التركية صراحة ودون مواربة، إن هناك في الإقليم مَنْ سوف يعجز عن مواجهة الناس، إذا جرى التحقيق يوماً في قضية الإرهاب في المنطقة، وفي تشعباتها المختبئة، ثم في جزئها الغاطس بعيداً عن الأنظار تحت الماء!
ورغم أن جرائد كثيرة نقلت عن تلك الصحيفة، ما صدر عن داود أوغلو في مانشيتات عريضة، فإن التصريح لم يستوقف أحداً ممن كان عليهم أن يستوقفهم، وأن يتحققوا منه، وأن يحققوا فيه. لم يحدث، ومر الكلام المُحمل بكثير من المعاني كما يمر غيره هذه الأيام!
وقد كان لكلام أوغلو سياق صدر فيه، ولم يصدر من فراغ، وسياقه الذي يشرحه ويوضحه، يقول إن صاحبه كان يقصد به شخصاً واحداً، وإن هذا الشخص الذي سيعجز عن مواجهة الناس، إذا جرى التحقيق في قضية الإرهاب في المنطقة، اسمه رجب طيب إردوغان!
كان السياق هو خروج وزير الخارجية التركي السابق من حزب العدالة والتنمية، الذي يحكم تركيا في الوقت الحالي، والذي يجلس إردوغان على القمة فيه، وكان الرئيس التركي من جانبه يصف انشقاق أوغلو عن الحزب بأنه خيانة، وكان يتحدث عنه وعن سواه ممن رافقوه في عملية الانشقاق باعتبارهم خونة، وبأنهم يجب أن يكونوا محل حساب ومساءلة!
والغالب أن أوغلو فضَّل الحديث غير الصريح، على طريقة «إياكِ أعني واسمعي يا جارة»؛ لعل إردوغان من جانبه يفهم أن الشخص الذي يصفه بالخيانة لديه معلومات، وأن هذه المعلومات ليست من النوع العادي، وأنه يمكن أن يثير الدنيا من حوله إذا تحدث بها!
قد يكون إردوغان مدفوعاً إلى العملية الهجومية على سبيل الهرب من مؤشرات اقتصاد متراجع تلاحقه في الداخل، وقد تكون هذه المؤشرات هي التي تدفعه إلى افتعال المواجهات في الخارج على عدة جبهات، ابتداءً من جبهة الشمال مع الاتحاد الأوروبي حول اللاجئين، وعددهم، وعبئهم عليه، ومروراً بجبهة الغرب مع قبرص واليونان، وإصراره على إرسال سفن التنقيب عن الغاز والبترول في مياههما الإقليمية، سفينة من وراء سفينة، وانتهاءً بجبهة الجنوب مع السوريين!
قد يكون مدفوعاً بهذا كله على سبيل الهروب إلى الأمام في مثل حالته، ولكن هذا كله لا ينفي أن علاقة هذا الرجل بـ«الدواعش» سوف تعيش في انتظار تدقيق وتحقيق!