سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

انتفاضة على الغطرسة

انقسم اللبنانيون في الساعات الماضية إلى قسمين: واحد في الشوارع، وآخر أمام أجهزة التلفزيون، لكنهما كانا فريقاً واحداً في الإجماع على أن البلد لم يشهد في تاريخه المستقل وضعاً اقتصادياً وسياسياً ونقدياً واجتماعياً، أسوأ مما هو اليوم. قبل ثلاثة أيام احتفل حزب التيار الوطني الحر بإحدى مناسباته المعروفة. وفي الاحتفال، ألقى رئيسه جبران باسيل خطاباً لعلعياً هدد فيه خصومه بأنه سيقلب الطاولة في وجوههم. فإذا بالطاولة والكراسي والمقاعد تنقلب في وجه السلطة السياسية. وبدا بكل وضوح، أن مظاهرات عفوية يقوم بها أناس يشكون البطالة والفساد وهجرة الشباب المريعة والغلاء المتوحش، والركود وانعدام الفرص، واستهانة السلطة بنداءات الاستغاثة وازدراء الحكم لأصوات الفقراء والبسطاء.
في مثل هذا الخنّاق أقام وزير مأدبة عشاء كلفت وزارته 450 ألف دولار. وفي مثل هذا التردي، خطر لوزير آخر أن يفرض ضريبة إضافية على «واتساب»، باعتبارها خدمة مجانية نادرة. ومعروف أن الوزير المذكور واحد من كبار أثرياء البلد. وأن اسمه يتداول أحياناً بين المستفيدين الكبار من أموال الدولة وعرق الناس. وكما قالت العرب كانت ضريبة «واتساب» القشة التي قصمت ظهر البعير، المكسور الظهر أصلاً بأحمال معيشية لا عدّ ولا حصر.
تتعاطى السلطة السياسة مع الناس بعجرفة مقيتة. كان لا بد من أن توصل إلى هذا الانفجار. ففي بلد معتم بالظلام، مظلوم بالرغيف، مذلول بأقساط المدارس وخراب الطرقات، لا تجد هذه السلطة ما تعد به الناس سوى قلب الطاولات وإشعال الحرائق السياسية، وإلغاء كل قوة سياسية أخرى، وتهديد الإعلام بالإسكات، وتمنين الناس بأشياء غيبية مثل إصدار القوانين أو إجراء التشكيلات الفارغة. وقد منّن أحد الوزراء السابقين من حديثي النعمة الشعب اللبناني، من أنه لم يعرف حكماً بطولياً كمثل هذا الحكم منذ 72 عاماً، أي منذ الاستقلال. وبحركة من بُنصره الصغير ألغى هذا الإنسان من تاريخنا رجالاً مثل رياض الصلح، وبشارة الخوري، وصائب سلام، وفؤاد شهاب، وكميل شمعون، وكمال جنبلاط، وريمون إده.
أفاق أولئك المكابرون أمس ليَروا لبنان واقفاً في وجوههم يعدد لهم كل ما يُزيل ادّعاءات الكبرياء والغطرسة وتفاهة العجرفة الفارغة. تحدث المتألمون عن الجوع والفقر والبطالة وانعدام الخدمات على أنواعها. وقالوا للسلطة إن الخِطب الفارغة لا تطعم خبزاً، ولا تفتح مدرسة، ولا توفر قسطاً. وأعربوا عن آرائهم الحقيقية في موكب وزير يضم عشرين سيارة في حالات التواضع والقناعة. وصرخوا في وجه هذا الفجور الذي لا يتوقف عند شيء. وهتفوا ضد تواطؤ أهل السلطة سواء عن منفعة أو عن حياء، وأبلغوا العالم أجمع أن لبنان يعيش في حالة انهيار كارثية لا يمكن أن تغطيها بعد اليوم الفصاحة النحوية التي لا تُصرف في أي مكان شأنها شأن العملة المزورة والوعد الزائف.