صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

بعد القرن العروبي والقومي جاء قرن الصراعات المذهبية!

لم يشهد العالم العربي، بمشرقه ومغربه، بروزاً للظاهرة المذهبية كما هو عليه الوضع الآن، وهذا حتى عندما كانت هناك المرحلة العثمانية التي لا شك أن الأقليات القومية والطائفية قد تعرضت فيها على مدى أربعة قرون وأكثر إلى اضطهاد منهجي وعشوائي جعل بعضها يستقبل بارتياح شديد المستعمرين البريطانيين والفرنسيين وغيرهم والترحيب بهم كـ«مخلصِّين» بعد مرحلة ظلامية لم يكونوا يُعاملون خلالها كمواطنين مثلهم مثل الآخرين الذين كانوا يشكلون الأكثرية في دولة كان المفترض أن يتساوى فيها جميع مواطنيها مسلمين وغير مسلمين.
وهكذا، فإن الأقليات المذهبية والقومية، بكل مللها ونحلها كالدروز والإسماعيليين والعلويين والشيشان والشركس والأرمن، قد حاول بعضها إنشاء دولها الخاصة وهذا قد ظهر واتضح، وإن لفترة محدودة في سوريا وفي لبنان وأيضاً في العراق على اعتبار أن الأكراد بقوا يسعون لإنشاء دولتهم القومية ليس في هذا البلد العربي وحده وإنما أيضاً في تركيا التي يقال إن عددهم فيها يصل إلى الثلاثين مليوناً، وفي إيران التي هناك تأكيدات بأن عدد هؤلاء فيها يصل، حسب بعض التقديرات، إلى عشرة ملايين والبعض يقول أكثر.
وهنا فإنه لا شك في أن القوى الخارجية، وبخاصة بريطانيا وفرنسا، قد بقيت تعمل على إذكاء النزعة «الانشطارية» لدى الأقليات القومية والدينية وأيضاً المذهبية في المنطقة العربية كلها، إنْ في الغرب وإن في الشرق وإن في كل مكان.
لقد كان هذا هو واقع الحال في بدايات القرن العشرين وامتداداً حتى نهايات ثلثه الأول حيث حاول «علويو» سوريا بتشجيع من المستعمرين الفرنسيين إقامة دولتهم المستقلة في اللاذقية وفي طرطوس وبانياس ومناطق أخرى لكن، وهذه حقيقة يجب أن تقال، أن الوطنيين والقوميين من أبناء هذه الطائفة الكريمة بقيادة العروبي الكبير صالح العلي قد أحبطوا هذه النزعة وقضوا على تلك المحاولة، وحيث إن بعض الرافضين لنظام حافظ الأسد قد حاولوا تشويهه وتشويه كثيرين من أمثاله من العلويين حتى الذين أصبحوا نزلاء السجون السورية، وأبشعها سجن المزة الشهير خلال المرحلة «الأسدية» إنْ في عهد الأب وإن في عهد الابن.
ثم وإن المفترض أنه معروف أنّ القرن العشرين، بدءاً بما بعد ثلاثيناته، كان قرن الظاهرة القومية وأحزابها الرئيسية كحزب البعث الذي كان تأسس في عام 1947 وانطلق من دمشق ليشمل ما يسمى بلاد الشام كلها ومعها العراق وليصل لاحقاً، وبخاصة بعدما بات يحكم في سوريا وفي بلاد الرافدين، إلى اليمن وإلى السودان ومصر وبعض دول الخليج العربي ودول أفريقيا العربية كالمغرب والجزائر وتونس وموريتانيا، وهذا ينطبق - وإن على نحو أكثر تواضعاً - على حركة القوميين العرب بقيادة الدكتور جورج حبش التي لم «تحكم» إلا في شطر اليمن الجنوبي، وحيث تحولت هذه الحركة لاحقاً، في عهد سالم ربيع علي وعلي ناصر محمد وعلي سالم البيض ومجموعة من الذين تمت تصفيتهم فيما يسمى مذبحة «المكتب السياسي» في عدن إلى حركة شيوعية، ماركسية - لينينية، تابعة للاتحاد السوفياتي.
وكذلك فإن ما لا يجوز إغفاله هنا هو أنَّ هناك أيضاً الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان أسسه أنطون سعادة في عام 1932 والمعروف أن هذا الحزب الذي يكاد ينحصر الآن في سوريا وفي لبنان كان ولا يزال ينادي بإقامة دولة ما يسمى «الأمة السورية» التي تشمل منطقة الهلال الخصيب ومعها الكويت وقبرص وشبه جزيرة سيناء وأيضاً جنوب شرقي تركيا لكنه لم يحقق أي نجاح ولا في أي دولة من هذه الدول، وهو قد أصبح تابعاً لهذا النظام السوري بعد عام 1982 في أعقاب رحيل أهم قائدين بعد أنطون سعادة هما: عبد الله سعادة وإنعام رعد.
إن المقصود بهذا الاستعراض هو أن القرن العشرين كان قرناً «قومياً» بصورة عامة وأن أكثر الدول العربية التي أنشئت في بدايات هذا القرن، كالمملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية والمملكة «الفيصلية» في العراق وأيضاً المملكة السنوسية في ليبيا، كانت كلها دولاً «قومية» وهكذا وعلى هذا الأساس فإن ما يسمى «الظاهرة المذهبية» كانت غائبة غياباً كاملاً على مدى سنوات القرن الماضي وحيث إن الأشقاء «الشيعة» ومعهم العلويون والدروز والإسماعيليون وأيضاً المسيحيون بكل مكوناتهم كانوا جزءاً رئيسياً وأساسياً من حركة التحرر العربي وأنهم كانوا من الأكثر حماساً للدعوة القومية العربية.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال هو أن المؤسس الرئيسي لحزب البعث هو المسيحي - الأرثوذكسي ميشيل عفلق وأن مؤسس الحزب السوري القومي هو أنطون سعادة وذلك في حين أنّ مؤسس حركة القوميين العرب ومؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هو الدكتور جورج حبش ومعه نايف حواتمة، وهذا يعني وبصورة عامة أنَّ القرن العشرين كان قرناً قومياً و«عروبياً» وإن الآفة الطائفية لم تظهر إلا بعد انتصار الثورة «الخمينية» في إيران في عام 1979 وإنها لم تأخذ هذه الأبعاد الخطيرة إلاّ بعدما غيرت طهران «استراتيجيتها» بعد هزيمتها في حرب الثمانية أعوام مع العراق وبادرت إلى إنشاء البؤر المذهبية التي باتت تشكل امتداداً لها في العراق وفي سوريا ولبنان واليمن وفي بعض دول الخليج العربي.
لقد أدركت إيران أنها ستخسر أي مواجهة عسكرية مباشرة، إنْ مع العراق وإنْ مع أي دولة عربية أخرى، وسواءً كانت قريبة أم بعيدة كما كانت خسرت حرب الثمانية أعوام مع بلاد الرافدين، ولذلك فإنها قد لجأت إلى تحويل «الشيعة» - وهذا إنْ ليس كلهم فبغالبيتهم - إلى بؤر مسلحة تابعة لـ«الولي الفقيه» في طهران ولحراس الثورة الإيرانية وعلى غرار ما هو عليه الوضع الآن في لبنان وسوريا والعراق وأيضاً في اليمن مما جعل هناك دولة مسلحة لها كيانها الخاص في كل واحدة من هذه الدول العربية، وحيث هناك «الحشد الشعبي» الذي هو بمثابة جيش إيراني، بقيادة قاسم سليماني، يسيطر على العديد من المناطق والمدن العراقية.
والمعروف أن إيران كانت قد أعلنت عن إنشاء ما يسمى «الهلال الشيعي» الذي يبدأ طرفه الأول بـ«باب المندب» في اليمن وينتهي طرفه الثاني بـ«اللاذقية» السورية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشمالية الشرقية، ويقيناً أنه كان من الممكن أن تحقق دولة الولي الفقيه هذا الهدف لولا التصدي السعودي الذي اتخذ عنوان «التحالف العربي» الذي تشارك فيه عسكرياً وسياسياً دولة الإمارات العربية. وعليه فإن المشكلة في هذا كله هي أنَّ دولة «الولي الفقيه» بعدما حققت كل هذه الاختراقات المذهبية في العديد من الدول العربية باتت تعمل الآن على إقحام هذه المنطقة في حروب طائفية قذرة، وحيث كان كبار القادة الإيرانيين، وعلى رأسهم علي خامنئي، قد رددوا مراراً وهم ما زالوا يرددون أن إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية والمقصود هو: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء... مما يعني أن هذه المنطقة مقبلة على صراع مدمر إذا بقيت الأمور تتخذ هذا المسار الذي تتخذه الآن، وإذا بقي بعض العرب يراهنون على هذا التحالف الإيراني - التركي الذي تعتبر قطر «الشقيقة» أحد أرقام معادلته السياسية والعسكرية، وذلك في حين أن «الإخوان المسلمين» ومعهم بالطبع حركة «حماس» يعتبرون الأداة «الآيديولوجية» لهذا التحالف الذي ذهب بعيداً في معاداة العرب والأمة العربية!!