عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

{نظرية الرجل المخبول}... من أميركا إلى بريطانيا

ضمن النظريات الحديثة نسبياً في العلوم السياسية، هناك نظرية تعرف باسم «نظرية الرجل المخبول» تستخدم لتفسير التصرفات الجامحة المتعمدة لبعض السياسيين الذين يريدون فرض سياساتهم بأسلوب حافة الهاوية. وجوهر الفكرة يقوم على أن يتصرف المسؤول السياسي بطريقة تعطي الانطباع بالتقلب والانفعالية، وعدم العقلانية، وحتى الجنون السياسي، وذلك من أجل ترهيب الخصوم السياسيين وإثارة قلقهم من ردود فعل غير متوقعة، تدفعهم لتقديم تنازلات له.
في أذهان الكثير من الباحثين وقراء العلوم السياسية ارتبطت هذه الإستراتيجية أو النظرية أول ما ارتبطت بالرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون، بل إن هناك من يعتبره أباها الروحي، إن لم يكن من أعطاها معناها الحقيقي من حيث الممارسة الفعلية في سياسته الخارجية. لكن الفكرة ذاتها قد تكون أقدم من ذلك بكثير، إذ وردت في ثنايا نظرية ميكافيلي في السياسة عندما تبنى مقولة «أحياناً قد يكون من الفطنة أن تتظاهر بالجنون».
على أي حال فإن النظرية تنسب إلى أسلوب نيكسون في السياسة الخارجية، لأنه أوحى لمسؤوليه أن يقولوا لكبار المسؤولين في الاتحاد السوفياتي السابق ولقادة فيتنام الشمالية أن الرئيس الأميركي «غير مستقر» وأنه مهووس في ما يتعلق بالشيوعية و«تأكله يداه للضغط على الزر النووي»، وذلك بهدف تخويفهم من عناد ساكن البيت الأبيض ودفعهم للتفكير في تقديم تنازلات خوفاً من رد فعل مجنون غير متوقع.
في ظل الزوابع المثارة حول الرئيس دونالد ترمب عادت بعض وسائل الإعلام، خصوصاً في الولايات المتحدة، إلى هذه النظرية في محاولتها فهم أو تفسير سياسات الرئيس. صحيفة «نيويورك تايمز» مثلاً نشرت أن ترمب يمارس إستراتيجية الرجل المخبول ويرى السياسة الخارجية مثلما كان يرى عالم المال والأعمال. ففي الحالتين إستراتيجيته هي الضغط على الطرف الآخر بشتى الوسائل، والظهور بمظهر الرجل الفظ الذي لا يأبه لأي شيء، ومستعد للقيام بأي عمل للوصول إلى هدفه.
هناك من يرى أن ترمب مارس هذه السياسة مع كوريا الشمالية عندما هدد بمسحها من الخريطة، وهدد رئيسها كيم جونغ أون بأن «زري النووي أكبر من زرك»، وأن رد واشنطن على أي تهديدات نووية سيكون «ناراً وغضب». ومارسها مع حلفائه في حلف شمال الأطلسي (ناتو) عندما لمح إلى أن بلاده ستعيد النظر في مظلة الحماية التي توفرها لهم ضاغطاً عليهم لرفع مساهماتهم في ميزانية الحلف العسكري. ومارسها أيضاً في الحرب التجارية مع الصين، ومع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عندما هدد بتدمير الاقتصاد التركي بشكل كامل إذا تجاوزت أنقرة الخطوط الحمراء في عمليتها بشمال سوريا.
اليوم نسمع البعض يلجأ إلى هذه النظرية لتفسير إستراتيجية رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون التي جعلت قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) مثل أرجوحة تتصاعد وتهبط بشكل درامي، مع تطورات متسارعة وضعت الساحة السياسية فوق مرجل يغلي بعنف. فجونسون مال كما يبدو لتطبيق «نظرية الرجل المخبول»، بناء على نصائح مستشاره السياسي القوي دومنيك كامنغز، على أساس أن تلك الاستراتيجية ستساعده في تخويف معارضيه في البرلمان، والضغط عليهم للموافقة على إستراتيجيته لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. هكذا رأينا جونسون يبدأ عهده بسياسات الوعيد والتصعيد وإنذار كل الأطراف بأنه سينفذ «البريكست» مهما كان الأمر، ولن يتورع عن الخروج بلا اتفاق. ثم أعلن تعليق البرلمان لمدة خمسة أسابيع في خطوة استفزازية غير مسبوقة لإعطاء الانطباع أنه مستعد لفعل أي شيء من أجل تنفيذ «البريكست» في التاريخ الذي حدده وهو 31 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري. وحتى بعدما حكمت المحكمة الدستورية بعدم قانونية خطوة تعليق البرلمان بتلك الطريقة وقررت عودة النواب فوراً، لم يظهر جونسون أي ندم على خطوته بل صعّد لهجته متهماً البرلمان بأنه «ميت»، ومستخدماً لغة التخوين واتهامات التخاذل ضد النواب المعارضين مما أثار الغضب والتحذير من تصعيد يعيد الأجواء التي أدت لمقتل جو كوكس، النائبة في حزب العمال المعارض، خلال حملة استفتاء «البريكست» في 2016، على يد متطرف يميني.
لكن جونسون لم يعدل أسلوبه التصعيدي بل قام بطرد 21 نائباً من بينهم وزراء سابقون ونواب مرموقون لأنهم صوتوا لصالح قانون تمديد «البريكست» حتى يناير (كانون الثاني) 2020 إذا فشل البرلمان في تمرير اتفاقية الخروج بحلول نهاية الشهر الجاري. وأتبع ذلك بالتفاوض على اتفاق مع الاتحاد الأوروبي ينتهك الخطوط الحمراء التي كان قد أعلن بنفسه قبل أسابيع أنه «ليس هناك رئيس وزراء بريطاني يمكن أو يجب، أن ينتهكها».
ثم اكتملت استراتيجية «الرجل المخبول» بوضع جدول زمني مستحيل للنواب لتمرير تشريعات اتفاقية الخروج (110 صفحات) خلال ثلاثة أيام فقط والتهديد بأنه إذا لم ينصَع البرلمان لمطالبه فسوف يجمد مداولات البرلمان ويدعو لانتخابات مبكرة.
وإذا كانت بعض الصحف حملت عناوين تتضمن أن جونسون «يتصرف بجنون» فإن هذا بالضبط ما سعى إليه. فالتلويح مراراً وتكراراً أنه مستعد لأي شيء، مثل تعليق البرلمان أو طرد النواب أو تهديدهم بالخروج من دون صفقة، ربما أسهم في الضغط على عدد من المعارضين في البرلمان لدعم الصفقة التي جاء بها من بروكسل على الرغم من أنها بحسب ما قالوا «أسوأ من صفقة تيريزا ماي».
لكن حتى الآن تعثر جونسون في تنفيذ «البريكست» الذي يحلم به و«استراتيجية الرجل المخبول» قد تنقلب عليه قريباً. فمع فشله في تنفيذ «البريسكت» بنهاية هذا الشهر وإصرار النواب على تمحيص بنود اتفاقيته، فإن المعارضة لخطته قد تشتد وتعرقل خططه، مثلما أن أسلوبه قد يستفز كثيرين ويدفعهم للوقوف في وجهه. ومع استمرار التعثر في البرلمان فإن بريطانيا قد تكون مضطرة لانتخابات مبكرة بنهاية هذا العام أو ربيع 2020 في ظل أجواء مشحونة بالتوتر والغضب من السياسيين الذين فشلوا في معالجة هذا الملف لأكثر من ثلاث سنوات. وإذا كانت صورة الرجل المخبول بتنفيذ «البريكست» بأي ثمن سترضي أنصار «البريكست» في بريطانيا، فإنها في الواقع تخيف الأغلبية، وقد تدفعها للتصويت ضد جونسون.. وتفتح بذلك باب خروجه من رئاسة الحكومة وربما الحزب أيضاً.
فهذه النظرية ربما ساعدت في تحقيق بعض السياسات، لكنها في النهاية كبدت السياسيين الذين انتهجوها ثمناً باهظاً.