سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

لبنان يسلخ جلده

يعلم اللبنانيون أن بلدهم ليس فقيراً؛ لكنه منهوب. يدركون أن لهم من الطاقات والخبرات والثروات ما يعمِّر لبنانين، وينتشل اقتصادين. يعرفون جيداً أنهم يوم يضعون قطارهم على السكة الآمنة، فلهم في الخارج ملايين الإخوة المغتربين القادرين على الضخ في شرايين الوطن بما يلزم. هؤلاء الذين في مهاجرهم، يتحرقون للمساعدة، منذ بدء الانتفاضة، فتحوا قنوات فيما بينهم، حوارات عابرة للقارات، يتناقشون حول حاجات لبنان الجديد، ويتساءلون عما يمكنهم أن يقدموه، غير الاحتجاج الرمزي أمام السفارات. كلهم ترك أهله ذات يوم مذعناً ومنكسراً؛ ليس للحاجة فقط؛ بل لحاقاً بطموح لم يعد لبنان يلبيه، أو هرباً من مذلة لزعيم صارت مقيتة وممجوجة، أو نجاة بالروح من نزاعات طائفية، لا اسم لها سوى ضيق الأفق، وتناتش للمغانم.
ضاق الناس صدراً بكل ما مضى، بكل هذا التاريخ الملطخ بالدم والقهر، والحرمان من فلذات الأكباد، الذي أضيف إليه في العقد الأخير كم من الاختلاسات لا يمكن أن يصدق. الأرقام الفلكية للمبالغ المسروقة تضرب على عصب الناس الذين أُفقِروا حد الجنون. يبدو أن ملياري دولار هو حجم التهرب الضريبي الرسمي الذي يوزع على النافذين، ومبلغاً مماثلاً يهدر سنوياً على الكهرباء المقطوعة أصلاً. حتى مشكلة النفايات التي تفتك بصحة الناس، هي موضع تنفيعات في الأصل وليست قلة حيلة. لم نعد نسمع بالألوف أو الملايين، صار المليار هو الوحدة التي تعد بها المبالغ المفقودة. جاءت الضرائب المتراكمة في السنة الأخيرة لتصل بالاستفزاز إلى أقصاه. حقاً كانت الستة دولارات ضريبة على مكالمات الـ«واتساب»، هذا الاختراع الشيطاني الذي لم يخطر على بال دولة في الكون، هو الشعرة التي لا بد من أن تقصم ظهر البعير.
حصل ما لم يكن في حسبان المحتجين أنفسهم. لا أحد يعرف كيف انفجر كل هذا الغيظ المكبوت دفعة واحدة. كأنما فاضت الكأس بقطرها. فات السلطة أن انكشاف أخبار الصفقات، وكثرة تداولها يحقن جمهور الناس. ربما لم ينتبهوا إلى أن الجيل الجديد له منطق آخر. أحد الشبان المتظاهرين وقف يصرخ: «زعماء الطوائف ضحكوا على أبي وأمي وأجدادي؛ لكنهم لن يستطيعوا أن يفعلوا الشيء نفسه معي. أنا من سأُفهم أهلي كيف يتعاملون مع هؤلاء». تلك حقيقة. انتفاضة الساحات يقودها شبان، يأتون بعائلاتهم وليس العكس، يشرحون لمن هم أكبر منهم أنهم استُغلوا أكثر مما ينبغي، وأن ما يسكتون عنه لم يعد مسموحاً، ويسخرون من التقسيمات المذهبية. عموم المتظاهرين يعنيهم أن يجدوا عملاً، ويحصدوا أمناً، ويبنوا مستقبلاً، الشعارات الكبيرة لا تعنيهم، والكلام في السياسة ليس شاغلهم.
لذلك، ليست صدفة أن تسقط الحواجز الطائفية فجأة، أن يسأل المتظاهر عن المنطقة التي جاء منها، فيرفض الإجابة؛ لأنه لبناني فحسب، لا انتماء آخر له.
مشهد المتظاهرين في الساحات اللبنانية بهتافاتهم الخارجة من القلب وبساطتهم ووحدتهم، أجمل من أن يصدق! كنا نسمع بالثورة ولم نختبرها. يحصل أن يفاجَأ المرء بنفسه، عندما تندلع ثورة، بأصدقائه، بمن هم حوله. يرى ملامح الوجوه قد تغيرت، الصلات بين الناس أكثر رحمة. الهوة بين الطبقات تردم بفعل التلاقي اليومي، وتوحُّد الهتافات، وتبلوُر الحلم.
كلهم يريدون استعادة المال المنهوب، جميعهم يهتفون لمحاسبة المختلسين. ثمة قناعة مشتركة بأن الطبقة الحاكمة التي توارثت البلاد وأفقرتها وعاثت فساداً، لا تؤتمن على القليل المتبقي. الشعور عند المتظاهرين بأنهم هنا من أجل الإنقاذ. أن وجودهم وقفة ضمير مع أنفسهم وأولادهم ووطنهم. لكلٍ قصة جاء من أجلها، وخلاص من ظلم يسعى إليه.
لم يسبق للبنانيين أن خرجوا عن بكرة أبيهم منذ الاستقلال، في مظاهرات عابرة للطوائف والمناطق والطبقات والأحزاب، دفاعاً عن كرامتهم وقوت يومهم، كما يحدث اليوم. نحن على مفصل. كل منا يشعر بأنه يعيش لحظة تاريخية. أياً تكن نتيجة المظاهرات، ثمة تغير عميق حصل. أمر ما كسر. ما بعد 17 أكتوبر (تشرين الأول)، مختلف كثيراً عما قبله.
مشكلة السلطة أنها لا تزال غير مصدقة. هذا خطير، كل لحظة تمر ترفع سقف المطالب في الشارع، وتضعف هامش المناورة عند السلطة. الانتظار لا يخدم مصلحة أحد. الناس لا يريدون أقل من تغيير الطبقة التي تواطأت وتقاسمت مغانم البلاد. على المسؤولين إيجاد الآليات الآمنة للنجاة بالسفينة قبل أن تغرق. الورقة الإصلاحية التي قدمها رئيس الوزراء سعد الحريري، كانت لتبدو مغرية قبل الانفجار الكبير. بعد أن خرج ما يقارب مليوني شخص إلى الشارع، لم تعد الهتافات المرتفعة تسمح بقراءة أوراق وتقديم مسوّدات. يريد المتظاهرون حلولاً بحجم عذاباتهم. هؤلاء شبان يريدون وطناً يشبه زمنهم، يحترم ذهنياتهم. ما عاد لائقاً في زمن التوظيف الإلكتروني أن تطلب من الخريجين طرق أبواب الزعيم بدل الكبس على الأزرار، ولا بمقدور أحد أن يقنع مواطناً بصعوبة تأمين التيار الكهربائي، والطاقة تولد من الشمس والهواء والنفايات، وشخص واحد في لبنان أمكنه بمبادرة ذاتية إضاءة مدينة بأكملها. ثمة نظام تآكل، نهش نفسه بنفسه، قضمته عصبياته وتخلفه وقبائليته وجشعه، وعليه أن يخلع جلده ليولد من جديد. ذلك ليس مطلب المنتفضين فقط. هو واقع يفرض نفسه. ومن في السلطة يعرفون ويكابرون، بدليل إجماعهم على أن خروج الناس إلى الشارع هو حق بعد كل ما ارتكب، واعترافهم بأن ما اقترفوه مجتمعين أكبر من أن يُسكت عنه. يبقى أن يأخذوا ما يتوجب عليهم من إجراءات، للانقلاب على أنفسهم بسلاسة، ويُجنبوا وطنهم مُر الكأس.