أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

لا تخذلوا ثورة اللبنانيين!

هي ربما مناشدة، أو أشبه بتحذير من الأخطار المحدقة بالثورة اللبنانية، وتحفيز لمن له مصلحة بنجاحها، كي لا يتردد أو يتأخر في دعمها وتمكين هذا الشعب المنكوب من نيل حقوقه المشروعة.
البداية من المجتمع الدولي، من منظمته الأممية، والبلدان التي تجاهر برفضها انتهاكات حقوق الإنسان، ألا تأخذها كالعادة لغة المصالح الضيقة والحسابات الأنانية، وتقف تراقب تصرفات السلطات اللبنانية وتعنتها، مكررة دورها السلبي تجاه ثورة السوريين، والأمل أن يبادر بعضها على الأقل ولو لمرة واحدة لدعم حلم اللبنانيين، وتجاوز التخوفات من ردود فعل «حزب الله» وتهديداته، وأيضاً نيات العدو الصهيوني تجاه لبنان، وكلاهما للأسف لا يريد لهذا البلد التعددي أن يكون مجتمعاً ديمقراطياً ووطناً حراً لكل أبنائه، بل مستنقعاً للتفرقة والنزاعات الدينية والطائفية والمذهبية، كي يبقى ضعيفاً أمامهما وهشاً.
ويأتي ثانياً الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي في استمرار وقفتهما المشرفة مع أهلهم وناسهم، فخصوصية تركيبتهما وطابع معاناة ضباطهما وعناصرهما، لا تختلف عن معاناة الشعب اللبناني، ما يسمح بمطالبتهما بألا ينزلقا إلى معركة التعدي على حرية الناس وحقهم في التعبير، استجابة لمصالح مسؤولين مغرورين أو فاسدين، بل أن يظهرا حزماً وشجاعة في حماية المتظاهرين وتمكينهم في الأرض.
تلي ذلك مناشدة قطاع واسع من أبناء الطائفة الشيعية كي تعود أياديهم للتشابك مع أيادي بقية المتظاهرين، وهم الذين برهنوا عبر مشاركتهم في الأيام الأولى أن أوجاع اللبنانيين واحدة، وما يكابدونه واحد، لكن هناك البعض منهم وللأسف انكفأوا، إما تحسباً من عناصر «حزب الله»، وإما لأن أكاذيب هؤلاء العناصر لا تزال تنطلي عليهم، لجهة إشاعة مخاوف مغرضة بأن هذه الثورة هي محاولة للنيل من نفوذ الطائفة الشيعية وما حققته من مكاسب!! أو لجهة محاولة فرض الإذعان المذهبي، بأن كل شيعي ملتزم بتكليف شرعي له أولوية وقدسية، قبل الجوع والحرية والوطن، أو لجهة العودة الديماغوجية، للعزف على وتر المؤامرة واتهام الثورة بالعمالة لإسرائيل ولجهات أجنبية، واعتبار ما يجري غرضه الثأر من «الانتصارات» التي حققها محور المقاومة والممانعة، كذا!
مناشدة هؤلاء المحرومين، ليست صرخة في الفضاء، بل تمس عمق معاناتهم المزدوجة، عوزاً وقهراً، خاصة أنهم الأكثر تضرراً من الحروب وحالة الاستنفار، التي يفرضها «حزب الله» لتعزيز نفوذه وسطوته، ولإشغال المجتمع عن خططه التنموية ومهمة بناء وطن ودولة يعتز بهما، وتالياً لأنهم الأقدر، في انتفاضتهم من داخل البيت، على تجنيب اللبنانيين المضاعفات التي لا بد أن يخلفها «حزب الله» عند اللجوء إلى السلاح، للحفاظ على التركيبة السياسية الفاسدة، ولعل ما يمنح هذه المناشدة قيمة مضافة، مشاهد القمع المؤلمة لإخوتهم المحرومين في العراق، والمظهر المعيب لعناصر «حزب الله» حين انقضوا على المعتصمين المسالمين، وحقيقة أن دافع الثورة ليست الصراعات الخارجية والتخندقات الإقليمية، بل تفاقم الاحتقانات الداخلية جراء انعدام الحد الأدنى من شروط الحياة وتغوّل البعض في تنافسهم الدنيء على الحصص والمفاسد.
أما رابعاً، فهي مناشدة لكل القيادات السياسية الوسيطة وكوادر الأحزاب اللبنانية أياً تكن، بأن عليهم، ليس مكراً أو تلاعباً، بل قولاً وفعلاً، نزع الغطاء الحزبي وارتداء العباءة الوطنية، ووضع مواقعهم وقدراتهم تحت تصرف المتظاهرين، بما يعزز تلاحم الجميع ويشدد الضغط على القيادات كي تستمع لرأي الناس وتستجيب لمطالبهم.
وأخيراً، ثمة نقطتان يفترض أن يضعهما المتظاهرون نصب أعينهم، كي لا تخذل ثورتهم؛ أولاهما تنامي الحاجة لوجود هيئات قيادية، يمكنها حماية الثورة وتنظيمها وتجنيبها ردود الفعل المتطرفة، فإذا كانت إحدى مآثر الثورة أنها نهضت عفوية، ومن دون تحضير مسبق أو قيادة جامعة، فإن استمرارها إن كان يراد له أن يستمر بأفضل وجه، يتطلب قيادة كفؤة ذات مصداقية، يمكنها ضبط الخلافات والتباينات بين صفوفها وترشيدها تحت مظلة وطنية واحدة، وملء الفراغ الناجم عن انحسار الثقة بعمومية السلطة وحيادها، خاصة إنْ طال زمن تشكيل حكومة جديدة مستقلة.
وثانيتهما؛ الحفاظ بالأسنان والنواجذ على سلمية الثورة، وعدم التردد في محاصرة أي اندفاعات عنفية أو ردود فعل ثأرية، كما ابتكار الأشكال التي تؤكد النهج السلمي، كالسلسلة البشرية التي امتدت على طول الساحل اللبناني، والحوارات التي تدار في غير ساحة، لنشر ثقافة التعايش والتعاقد الوطني بين مختلف الفئات الشعبية والسياسية التي تجاوزت طوائفها وأحزابها.
والحال، إذا كان شرط لازم لنجاح ثورة اللبنانيين هو كسر القيود الدينية والطائفية والمذهبية، فالشرط الكافي هو الكشف عن وجه وطني عريض، لا تظهر عليه ملامح التسرع وانعدام الصبر، قادر على بلورة خطاب يفتح الباب واسعاً للتوافق والتشارك مع مختلف الأطراف اللبنانية دون استثناء، وينأى عن أي اندفاعات أنانية وضيقة تعمق التخندقات، وربما من دون هذه الروح يصعب تشجيع مختلف الأطراف على تقديم التنازلات وحسم تردد مجموعات وزعامات هي أقرب إلى الثورة في رؤيتها ومواقفها، وتجنيب اللبنانيين دورة آلام جديدة، إن نجحت التركيبة السياسية الطائفية في إجهاض آمال الناس بالتغيير.
إن ما يحصل في لبنان لن يثمر ويأتي أُكله إلا إذا استمر إصرار الشعب اللبناني على الانتقال من عهد الوصاية المتعدد الوجوه إلى حكم نفسه بنفسه، متجاوزاً أغلال الطوائف والمذاهب وسقوف الأحزاب، خاصة أن المخارج التي طرحت، إذا استثنينا استقالة الحريري، تؤكد أن جل الأطراف السلطوية لا تزال تحكمها الحسابات الضيقة والأطماع الشخصية، والأسوأ استمرار بعضها في صياغة سياساته بدلالة ارتباطاته الخارجية، وليس بدلالة الداخل الوطني ومعاييره!!
يفيق اللبنانيون اليوم من خدر الدعاية الوصائية أن لا أحد يستطيع قيادة البلد سوى القائمين عليه، رغم فشل أغلبهم! ويفيقون من الوعي الزائف على بَشَرٍ قُصّر، دون سن الرشد... يفيقون على حقيقة تتكرس مع كل يوم يمر من عمر الثورة، أن لبنان لن يعود إلى الوراء أو إلى ما كان عليه، وأن ثمة لحظات تعاش في الساحات والميادين، هي أشبه بالتأسيس لبناء وطن جديد ودولة المواطنة الديمقراطية بكل ما تعنيه هذه العبارات من معنى.