إميل أمين
كاتب مصري
TT

«كايسيد»... انتفاضة أخلاقية ضد خطاب الكراهية

ترى ما الذي يفتح المجال واسعاً للشر أن ينتشر؟ قطعاً أن يتوارى الخير، وبالقدر عينه ما من شيء يجعل فائض الكراهية يتصاعد حول العالم، إلا غياب التسامح والتصالح ولغة المودة.
على مدى يومي الأربعاء والخميس الماضيين، عقد مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات «كايسيد»، في فيينا، مؤتمراً دولياً حول دور الدين والإعلام في مناهضة خطاب الكراهية وتعزيز التعايش السلمي، ويعد المؤتمر إحدى فعاليات المركز الذي تقوم على رعايته المملكة العربية السعودية ودعمه وزخمه بشكل خاص، وتشارك في عضويته النمسا وإسبانيا والفاتيكان، تلك الفعاليات الساعية في طريق الوفاق الإنساني، لا الافتراق.
تتأتى أهمية المؤتمر الأخير من كون القيادات الدينية والإعلامية تتمتع بدور فعال في تعزيز التماسك الاجتماعي، ومع تصاعد موجات خطاب الكراهية، أقرت الأمم المتحدة وكثير من المؤسسات الدولية بالتعاون مع تلك القيادات، أهمية العمل معاً لتعزيز العيش والمواطنة المشتركة، ومناهضة مثل ذلك الخطاب الذي يستدعي خطابات شعبوية وعرقية سابقة، جلبت على العالم الوبال في نصف القرن العشرين الأول بنوع خاص.
يمضي مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز يداً بيد مع التقدم الفكري والأخلاقي، الذي أحرزته الكيانات الدولية المختصة بتقدم الأمم ورقي الشعوب في الأعوام الماضية على صعيد إعداد استراتيجيات وطنية تهدف إلى مناهضة خطاب الكراهية، ذاك الذي بات يملأ آفاق الحياة المعاصرة، وجعل من نهار بشريتنا قلقاً وحوّل ليلها إلى أرق.
في كلمته الافتتاحية، أشار الأستاذ فيصل بن معمر، الأمين العام لـ«كايسيد»، إلى أن اللغة تتمتع بالقدرة على الإنعاش والبهجة، بقدر ما يمكنها أن تكون سلاحاً ذا حدين، إذ يمكن للخطاب أن يكون مصدر إلهام، وفي الوقت نفسه يمكن أن يتحول إلى أداة تحريض على العنف والكراهية أيضاً.
انتشرت، مع الأسف الشديد، لغة الكراهية كالنار في الهشيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما سمح بوصول محتواها إلى أكبر قدر من الناس، ربما دون أدنى قدر من المساءلة والمحاسبة، وبات خطاب الكراهية في المقام الأول معضلة القرن العشرين، مستمداً قوته وزخمه من العصر الرقمي الذي منح أي فرد يملك هاتفاً ذكياً القدرة على المشاركة في محادثة عامة تجري بين مليارات البشر حول الكرة الأرضية.
وضع «كايسيد» المجتمع الدولي عبر كلمة الأمين العام أمام استحقاقات أجوبة لأسئلة مصيرية ثلاثة:
ما الذي يفعله رجال الدين لتشجيع الحوار والتسامح، كيلا يستخدم الدين بشكل مطلق كأداة لاستهداف الأقليات والمستضعفين، أو الذين يمارسون الشعائر الدينية بطريقة مختلفة؟
ثانياً، ما الدور الواجب على الجهات الإعلامية الفاعلة القيام به، ولا سيما تلك التي تستخدم وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة، في سياق تجنب أفكار تعزز من تهميش الآخرين، أو السعي عبر لغة العزل والإقصاء لتقسيم المجتمعات فئوياً واجتماعياً، طائفياً ومذهبياً؟
أخيراً، ما دور صناع السياسات في دول العالم في وضع حد واضح وظاهر للعيان لا يقبل اللبس أو التماهي، بين حرية الرأي وإشكالية الخطاب المتجاوز والمتنمر، خطاب الكراهية والتحريض؟
لعل الجزئية التي توقف أمامها الأمين العام لـ«كايسيد»، التي يتوجب على الجميع اعتبارها والاهتمام بمحوريتها إلى أبعد حد ومد، هي تلك الموصولة بالعلاقة بين العمل السياسي والتوجهات السلطوية، وبين خطاب الكراهية.
يؤمن الرجل و«كايسيد» بمفكريها وناشطيها من حوله، أن التعطش البشري للسلطة يمكن أن يؤدي غالباً إلى الكراهية، لأن الكراهية تعد آلة القتل، التي لم يسلم منها العالم، بدءاً من حقول القتل الكمبودية إلى المقابر المفتوحة في سريبرينتسيا، إلى معسكرات الاعتقال في أوروبا وقت الحرب. آلة استخدمت لتأمين السلطة عبر إقناع الناس أنهم مهددون من طرف عدو مشترك، سواء أكان العدو المفترض من اليهود أم من المسلمين، أم من قبائل مختلفة، أم من أصحاب توجهات سياسية واجتماعية مغايرة.
وضع مؤتمر «كايسيد» الأخير يد العالم على جرح نازف ومفتوح وخطير في الوقت ذاته، إذ ونحن نعيش في أوقات تتزايد فيها الشعبويات من جهة، وتنمو فيها الأصوليات الضارة من ناحية أخرى؛ حيث تستخدم ورقة انعدام الثقة بالآخر كوسيلة للاتحاد، يسمح للمجموعات التي تعيش على الهامش بالتقدم لأخذ دور مركزي في المجتمع، ما جعل من العصر الرقمي عالماً لاستجلاب الكراهية وتضخيمها، عن طريق إساءة استخدام تلك الهبة المشتركة، ألا وهي اللغة.
طوال 5 أعوام، عمل مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي من أجل تعبيد طرق التلاقي، وإنارة شموع المودات في مسالك مظلمة، واليوم يعزز دوره الأممي بمزيد من البرامج المقاومة والمناهضة للغة الكراهية في جميع المناطق التي يعمل فيها، ولا سيما حيث توجد الصراعات، كما في جمهورية أفريقيا الوسطى ونيجيريا والمنطقة العربية وميانمار وأوروبا، وعبر تعاون أوثق مع الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية لمواجهة الآثار الخطيرة للغة الإقصاء على جميع مستويات المجتمع.
الخلاصة... كايسيد «سراج منير»، وسط غياهب جبّ الكراهية.