إميل أمين
كاتب مصري
TT

أميركا والسعودية... زمن الجسور القوية

يستدعي الحوار الرصين الذي أجرته صحيفة «بوليتيكو» الأميركية ذائعة الصيت مع الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان سفيرة المملكة العربية السعودية لدى الولايات المتحدة، مساحة من التفكير حول واقع حال الدبلوماسية السعودية في الوقت الحاضر، ومدى التغيير والتطوير الإيجابي الذي طرأ عليها، لا سيما في طرائق التفكير والتعامل مع الآخر المغاير، الغربي بوجه عام والأميركي بنوع خاص.
البداية يمكن الإشارة إليها من عند الرؤية الاستراتيجية التي تنطلق منها المملكة وهي صناعة صورتها لدى الآخر، والمعروف جيداً لا سيما في الحالة الأميركية أنه إن لم تبادر بنفسك إلى صنع صورتك في الداخل الأميركي كما تريد، فإن هناك وللأسف الشديد من يسعى إلى رسم تلك الصورة كما يريد هو، وغالباً ما تأتي الصورة مشوهة، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أميركا «الكوربوراتورية»، محل وسوق واسعة للدعاية والإعلان، والتمييز بين الحقيقة والزيف على أرضها أمر يحتاج إلى معايير قد لا توجد لدى المواطن الأميركي المهموم فقط بنمطه الاستهلاكي.
تأتي تحركات الدبلوماسية السعودية في أوقاتنا الراهنة من أجل بناء هيكل تكتوني مغاير عما سبق، بمعنى البحث عن مساقات ومسارات تتجاوز، كما أشارت الأميرة ريما، التعاون النفطي، على الرغم من أهميته، إذ لا يزال سائل صناعة الحضارة الغربية حتى الساعة، وتقفز بالقدر نفسه على شراكات مواجهة الإرهاب والإرهابيين، والتي تشهد واشنطن بأن الرياض وطوال العقود الماضية كانت الحليف الأكثر موثوقية وموضوعية في محاربة طاعون القرن العشرين الذي تفشى ولا يزال حول العالم.
ترسم الخطوط الاستراتيجية السعودية الخارجية اليوم في وقت يدرك فيه صانع القرار الأميركي الدور الذي تقوم به المملكة كقوة اعتدال على الأرض، لا سيما أن قدرها قد ساقها في منطقة موبوءة بقوى شر تقليدية، من خلال أنظمة ثيؤولوجية بعيدة كل البعد عن أطر الديمقراطية أو هياكل المدنية؛ منطقة بها من الجزر الصغرى من يدفع قوى الإرهاب، بل ويدافع عنها، ولا ينفك يسعى في تمويلها مادياً ويوفر لها الحاضنات اللوجيستية.
تسعى المملكة اليوم إلى تدعيم جسور التواصل الأميركي السعودي من خلال توسيع دائرة التعاون الخلاق، فأميركا في واقع الحال ليست مصافي نفط في تكساس أو غيرها من الولايات الكبرى في صحاري أميركا، أو خلايا استخبارات تطارد الجماعات المارقة والفئات الضالة.. إنها إمبراطورية مترامية الأطراف، وتجربة إنسانية ثرية بها من آفاق التعاون الكثير والمفيد للجانبين.
أميركا هي بحكم الواقع مجتمع أعمال متميز ومتقدم، ولا تزال قاطرة للنمو الاقتصادي العالمي، ويوم تصاب أسواقها المالية بالبرد، يشعر العالم برمته بأعراض الزكام وأمراض الشتاء، ولهذا فإن هناك مجالات خصبة لتفعيل التعاون الاقتصادي الخلاق مع المملكة الماضية قُدماً في رحاب «رؤية 2030» والتي يقوم عليها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وبما يجعل اقتصاد الابتكار والإبداع هو الرهان الجديد وليس الريع النفطي التقليدي.
لا تزال الولايات المتحدة القبلة العلمية والتعليمية الأهم حول الكرة الأرضية، والمثير أن العالم مصاب بازدواجية مثيرة ولافتة، ففي حين يهاجمون السياسات الأميركية، ويكيلون لها الاتهامات، إلا أنهم يسارعون إلى ابتعاث أبنائهم للتعلم فيها، ما يعني أن أطر التعاون العلمي والتعليمي تبقى فضاء مستقبلياً ما بين الدولتين.
هناك جزئية ينبغي أيضاً الاهتمام بها في سياق تعميق وتجذير العلاقات السعودية الأميركية، تلك المرتبطة بملامح الثقافة ومعالمها، وربما يكون هذا بُعداً غائباً عن الكثيرين، فأميركا تختلف كثيراً جداً عن أوروبا من ناحية تقدير القيم الروحية والأخلاقية، بمعنى أن أوروبا المغرقة في العلمانية، قد تكون أبعد كثيراً جداً في نقاط الالتقاء عنها من أميركا المعروفة بأنها دولة علمانية الهوية لكنها مغرقة في الهوى الديني، ما يفيد بأن هناك إمكانية لإيجاد نقاط تماس أخلاقية وقيم إنسانية وثقافية تتشارك فيها البلدان في مواجهة الكثير من القضايا العصرانية الملتهبة كالإلحاد المعاصر، والمادية التي سلعت الإنسان، وباعدت بينه وبين رسالته الحقيقية على الأرض وإعمارها وجعلها سكناً طيباً لبني البشر.
تمضي المملكة اليوم نحو الآخر عبر جسور تمتد نحو الآخر لجهة مساحات أكثر تسامحاً وتصالحاً، مساحات تتسق ومفهوم الإسلام الوسطي الذي لا ينفك الأمير محمد بن سلمان يتحدث عنه ويبشر بعودته بعد عقود من التكلس، والتسامح لغة يفهمها المجتمع الأميركي بشكل طيب، وهنا ينبغي التنبه إلى الفواصل بين ما هو حكومي أميركي، وما هو مجتمعي في دولة كبرى بها الكثير من المؤسسات الأهلية والدينية الفاعلة والناجزة على الصعيد الإنساني.
من أفضل ما جاء في حوار «بوليتيكو»، قول الأميرة ريما إنها في واشنطن لتعبر عن وجه آخر للمملكة وسياسات جديدة تسعى لتأصيل روح أخرى أكثر تواصلاً ورغبة في البناء والنماء الإنساني، وهي لغة يجيد الأميركيون فهمها، لغة الجسور لا الجدران، وفي الوقت ذاته ترى أن وظيفتها هي سماع النغمة الأميركية وفهم المشاعر الكامنة وراءها ونقلها إلى الوطن بصدق وموضوعية، أي أن تضحى طريقاً ثنائية من المودات الإنسانية.
خلاصة الكلام، باتت الدبلوماسية السعودية المحدثة هي قوة المملكة الناعمة في قارات الأرض الست، قوة تتحدث عبر التغيير الاجتماعي الأنفع والأرفع في تاريخ المملكة منذ نشأتها وحتى الساعة.