سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الانتصار الأكبر

انتقل اللبنانيون في غضون أيام قليلة من الخاص إلى العام، من البيت إلى الشارع، ومن المسارح المغلقة إلى عروض الفضاء المفتوح، ومن برودة وسائل التواصل إلى التماس الإنساني المباشر. بدوا وكأنهم يكتشفون مدنهم وقراهم وأحياءهم. لم تعد السيارة وسيلة سهلة للتنقل، بعد قطع الطرقات، وإغلاق أماكن الاعتصام. أصبح المشي ضرورة، والحديث مع الآخرين حاجة لفهم ما يحدث. جاء الناس بخيامهم نصبوها حيث يشاؤون، وببضاعتهم التي يودون عرضها، وبأفكارهم التي يريدون التحاور حولها، في حلقات نقاش. أتوا بطناجرهم أيضاً التي قرعوها احتجاجاً، غنوا، رقصوا، وبكوا، وشكا أحدهم للآخر حكايته. صرخ الفقراء ألماً، والعاطلون عن العمل قهراً، والمطرودون من رحمة الضمان الصحي لوعة من مأساتهم. قالت إحداهن إنها صارت تخشى الموت؛ لأن عائلتها لا تستطيع أن تدفع تكاليف جنازتها وقبرها. وقالت أخرى إنها قريبة زعيم كبير سمته بالاسم؛ لكنها مع ذلك لا تجد كسرة خبز، ولا إيجار منزلها، أو علاج ابنتها المريضة.
لمرة، سقطت استعراضات الوجاهة والأناقة، والتشاوف الزائل. صار الغنى الفاحش عاراً وتهمة، وشكوى الحاجة ضرورة، لإدانة سلطة ظالمة حرمت كل هؤلاء الحق في العيش. ظن الناس طويلاً أن خيبتهم آتية من قلة حيلتهم، والفقر قدرهم، واكتشفوا فجأة أنهم يتقاسمون الوجع نفسه، كل بقدر، وأن سبب ذلهم هو عقاب جماعي أنزل بهم من دون أن يقترفوا ذنباً، سوى صمتهم على جور طال أكثر مما ينبغي. استفاق بلد بأمه وأبيه، بعد خدر عقود، على انهيار مالي كاسح لا يبقي ولا يذر، وحفنة من المختلسين يقبضون على مئات المليارات التي تبخرت.
تدفقت وثائق العار والاختلاس، لا تدري كيف نبشت. فتحت الملفات النتنة في الإعلام، تناقلها جمهور الغاضبين على هواتفهم. كسرت هيبة الزعيم الذي حمته طائفته منذ قيام لبنان كما لم يحدث أبداً. لم يسلم أي منهم من الشتم، لم يوفرهم رسامو الغرافيتي الذين صبوا جام غضبهم على الجدران، لم ترحمهم هتافات المنصات، وصرخات المتظاهرين الناقمين.
قيل الكثير عن جاذبية الاحتجاجات اللبنانية، وهي بالفعل فرحة، مرحة، خفيفة الظل. ناعمة الملمس؛ لكنها على ظرفها تخفي نزف الأرواح من الحروب التي اجتازتها، والمحن التي استنزفتها. ثمة نوع من اللهو الممزوج بالمرارة. إحساس عارم بأن وقت الخلاص قد حان، وبأنه يجب أن يأتي برفق من دون ذرف دماء. دفع اللبنانيون كثيراً وكفى. جيل الحرب لا يملك إلا أن يتوجس، فتجربته مريرة ومديدة، والأكثر يناعة ليس لديهم ما يخسرونه. إنها فرصتهم التي لن تتكرر، وهم يعرفون. ثمة إمكانية الآن أن يبنوا وطناً، أو يُكسروا ويتحولوا إلى جيل مهاجر آخر يترك البلاد، وكأنما أفواج الهاربين تتجدد في استنساخ لا نهاية له.
مزهوون الكبار بديناميكية صغارهم، بقدرتهم على ابتكار أساليب الاحتجاج، بصبرهم، وإنسانيتهم، وسعة صدرهم، وقدرتهم على التنسيق فيما بينهم، دون ثرثرة وكثير كلام. يتحدث خمسيني عن ذهوله من بلاغة تعبير الشباب بجمل بسيطة، لشرح ما يعجز هو نفسه عن قوله بفيض من المفردات. يتمرد الطلاب على وزير التربية، على إدارات مدارسهم وجامعاتهم، على القوى الأمنية، يتجمعون لا للوقوف في الساحات فقط؛ بل لغزو بنوك الأهداف التي يريدون استعادتها للوطن. تلك المواقع يعرفون أنها سبب نكبتهم، شركتا الخليوي؛ حيث الحديث عن سرقات مخيفة: «زيتونة بيه» المشروع السياحي المبني على مخالفة واستثمار لا يتجاوز الدولار سعر المتر الواحد، رغم أنه يقع في أغلى مناطق بيروت. إلى «الإدين بيه»، المشروع الأكثر استفزازية ووقاحة، وهو يغلق البحر أمامهم. كل مرفق ومؤسسة هي بحاجة إلى تحريرها من مختطفيها، وإعادتها للناس. من القضاء الذي جعله السياسيون ملكيتهم الخاصة، إلى الكهرباء التي استنزفت مقدرات الدولة بعشرات المليارات، إلى المرفأ الذي صار أسير السماسرة. هذه ليست مبالغة، هو شعور عميق بأن المواطن جُرِّد من كل ملكية عامة أو أقل خدمة مجانية، حتى حرش بيروت الذي يفترض أنه متنزه للعامة بات دخوله مقتصراً على بعض المحظيين. المساحات الخضراء نُهشت، الجبال قُضمت، بسبب كسارات النافذين.
حقاً، لم يحرر المحتجون حتى اللحظة غير الشارع الذي افترشوه، وإراداتهم التي كانت مغلولة، وأفواههم وهي تنطلق بالشكوى وشتى أنواع السباب. ليست صدفة أن يأتي الأهالي بأثاث بيوتهم ليسدوا به الشوارع، وأن يكتسح باعة العربات الصغيرة وسط بيروت. الشعور أن هذه أماكننا أعيدت إلينا.
في كل يوم يفاجئنا المحتجون بجديد، تلك واحدة من سحر هذه الحركة وجاذبيتها. وكأنما فنون المسارح والصالات التشكيلية، واستوديوهات الغناء، ومعاهد الرقص، والحلاقون، والمطاعم جميعها، كلها أتت بما لديها. مارسيل خليفة يجول من الشمال إلى الجنوب، ليشد العزائم بأغنياته الوطنية، و«دي جي» طرابلس مهدي كريمة، ينتقل إلى وسط بيروت. ولا تكف المطاعم عن التبرع بالوجبات، والأمهات عن تحضير السندويشات، ويسهم الخطاطون في كتابة اللافتات، والمحامون في تقديم الاستشارات، والاقتصاديون يساعدون في شرح ما وصلت إليه الأزمة.
لم يحقق المنتفضون مبتغاهم بعد؛ لكنهم فرحون بالمحبة التي تجمعهم، الألفة التي فاجأتهم، والنبض الدافق في الساحات. استعادوا الأمل لأنهم عرفوا أن لهم صوتاً يمكنه أن يرتفع ويؤثر، أدركوا أن قيمتهم تنبع من تآلفهم وتماسكهم، وإصراهم على العيش معاً. وهذا هو الانتصار الأكبر.