د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

تدحرُج الإسلام السياسي

هناك مسألةٌ مفصليةٌ تحتاجُ منا إلى الانتباه المعمق، نحن المنتمين إلى الفضاء العربي الإسلامي الذي يعاني من ظاهرة الإسلام السياسي. وهي مسألة أظهرتْها تجارب السنوات الأخيرة وتمتحنُ مجموعة من المفاهيم السوسيولوجية مثل مفهوم الحراك والتفاوض وأيضاً مفهوم التأثير الذي يربطُ مواضيع عدة في علم النفس الاجتماعي.
سندخل في الموضوع مباشرةً: من المعروف أن الحركات التي تنضوي تحت مسمى الإسلام السياسي من أهم مصادر قوتها أنها تتمتَّعُ بما تفتقر إليه الحركات اليسارية والتحديثية وهو عنصر انضباط قواعدها الشعبية. وفسَّرت الدراسات التي اهتمت بقراءة هذا الانضباط الحزبي لدى حركات الإسلام السياسي بأن ذلك يعود إلى مزايا الآيديولوجيا الدينية، التي تخلق انضباطاً حول المشروع بلفت النظر عن المشاركة السياسية من عدمها.
ما أثبته انتقال الإسلام السياسي من المعارضة إلى المشاركة في الحكم، هو أن هذا الانضباط، مصدر قوة الإسلام السياسي، قد تراجع بقوة، مما يعني أن قوته تذبل حين يمارس الحكم.
نوضح هذا الاستنتاج أكثر: طبيعة المشروع السياسي الإسلامي هي طبيعة صلبة وليست تفاوضية في عمقها ومبادئها. في حين أن المشاركة السياسية تقتضي البراغماتية والدخول في تفاوضات وتوافقات مع باقي مكونات الحقل السياسي. ودائماً تكون هذه التفاوضات على حساب أسس مشروع الإسلام السياسي، الشيء الذي أثَّر على القواعد الشعبية للأحزاب الإسلاموية التي ترفض المسَّ بالمشروع وبالمرجعية.
وكي لا يكون كلامُنا فضفاضاً سنعتمدُ حركة «النهضة» التونسيّة مثالاً نقرأ فيه انضباط قواعد الحركة من انتخابات المجلس القومي التأسيسي في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 إلى تاريخ انتخابات أكتوبر 2019. بمعنى آخر كيف كان مسار الانضباط الحزبي من خلال التصويت الانتخابي؟ وهل كان مساراً تصاعدياً أم ثابتاً أم أنه عرف تراجعاً وتقلصاً؟
في الانتخابات الأولى عرفت «النهضة» نجاحاً كبيراً تحصلت بفضله على الأغلبية النسبية للمقاعد في البرلمان (89 مقعداً)، وأسهمت كقوة رقم واحد في البرلمان في كتابة الدستور الجديد وأثَّرت فيه ككتلة بقدر ما سمح لها التوافق والمشاركة السياسية في حقل سياسي واجتماعي وتاريخي، تميز بهيمنة الحداثيين والمنجز التحديثي للدولة الوطنية التونسيّة.
أما في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 فقد كانت في المرتبة الثانية وتدحرجت من موقع صاحبة الأغلبية النسبية إلى الحزب الثاني في البرلمان من حيث عدد المقاعد التي بلغت 69 مقعداً، وفازت «نداء تونس» بـ86 مقعداً.
في الانتخابات الأخيرة تواصل التدحرج ووصل إلى فوز حركة «النهضة» بـ57 مقعداً، وهو ما يعني أنها من 2011 وإلى غاية هذه السنة وخلال ثماني سنوات من الحكم خسرت 32 مقعداً، وهو رقم لا يستهان به بالمرة سياسياً وفي حركة الانضباط الحزبي لقواعد حركة «النهضة».
لماذا تراجع الانضباط؟
من الأفكار التي تتردد كثيراً في الحياة السياسية في تونس أن كل من توافق مع حركة «النهضة» كانت نهايته التبخر سياسياً، ويضربون مثالاً يبدو للوهلة الأولى دامغاً وهو حركة «نداء تونس» التي كان رئيسها يحكم تونس، السيد الباجي قائد السبسي، والتي كانت الأولى في البرلمان في انتخابات 2014، وكيف أن هذه الحركة التي وُلدت كبيرة جداً انتهت في انتخابات 2019 بالفوز بمقعد واحد يتيم، وهي التي كانت تمتلك قبل خمس سنوات 89 مقعداً.
ولكن في الحقيقة السقوط (أقوى من التدحرج) الذي عرفته حركة «نداء تونس»، إنما يعود إلى الانشقاقات الكثيرة والمتتالية التي عاشتها الحركة والدخول في تجاذبات ومعارك حول الزعامة والسلطة أدَّتْ إلى تعطيل البلاد وتغليب الصراعات الشخصية المصلحية على أولويات الوطن ومستقبل الحزب.
لذلك فالرأي عندنا أن حركة «النهضة» هي المتضررة من التوافق الذي ضرب بقوة أهم مصادر قوتها وهو الانضباط الذي كانت تتميز به قواعدها الشعبية والذي يمثل خاصية رئيسة لحركات الإسلام السياسي. فالتوافق ضغط على الحركة ومن أجل ضمان الوجود والقبول السياسيين والتمكن من التشاركية السياسية قبلت بمجموعة من التنازلات التي لم تكن مقبولة داخل الحركة وعند القواعد إلى درجة أن هذه الحركة التي كانت واعية بضرورة عدم الوقوع في الانشقاقات قد بدأت في المدة النيابية الأخيرة تعرف تصدعات داخلية واختلافات ذات نبرة عالية في مجلس الشورى وبدأنا نسمع عن انتقادات توجه إلى رئيس الحركة نفسه السيد راشد الغنوشي وهو ما لم يكن يحصل من قبل.
إنّ قبول «النّهضة» للتوافق مع حركة «نداء تونس» ومصادقة كتلتها النيابية على إدراج مرجعية حقوق الإنسان ومرجعيات الحريات الكونية في توطئة الدستور، وأيضاً المصادقة على المساواة بين الجنسين وحرية المعتقد والضمير... كل هذا وصولاً إلى الفصل بين الدعوي والسياسي في الحركة، أدى إلى ضعف انضباط القواعد الشعبية للحركة وتراجع الثقة واعتبارها غلّبت السياسة على المشروع الذي بُعثت من أجله الحركة وناضلت.
فماذا نفهم إذن؟
الواضح أن المشاركة السياسية مدخل لزعزعة قوة الإسلام السياسي، لأن المشاركة تعني في القرن الحادي والعشرين الانخراط في ثقافة دعم الحريات وقيم المواطنة ذات المرجعية الكونية للحريات والتي كثيراً ما تعرف توترات على مستوى القراءة والتعاليم بين المرجعية النصية الدينية ومرجعيات حقوق الإنسان، التي هي نتاج الحداثة التي قامت بدورها على عُلوية العقل والفرد والحرية. بمعنى آخر فإن الإسلام السياسي تُضعفه المشاركة في الحكم، وما تشترطه عليه من تنازلات تجعله يفقد الأصوات تدريجياً ويتدحرج شيئاً فشيئاً.