لحسن حداد
كاتب مغربي وهو أستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال. خبير دولي في التنمية والاقتصاد والدراسات الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية. نائب رئيس «المنظمة الدولية للتنمية». وزير السياحة الأسبق في الحكومة المغربية. عضو في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان). رئيس اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي والمغربي.
TT

نفق إسبانيا يصير أظلم مع كل انتخابات!

تعيشُ إسبانيا على وقعِ سيل من الأزمات المالية والاقتصادية والسياسية منذ أكثر من عشر سنوات. ويبدو أن الانتخابات التي جرت يوم الأحد 10 نوفمبر (تشرين الثاني)، والتي زادت من بلقنة الساحة السياسية، لم تزدِ الأمر إلا تعقيداً.
الأزمة المالية الخانقة التي عرفتها إسبانيا بين 2008 و2014، والتي جعلتها ضحية أزمة «الديون السيادية الأوروبية» كانت لها آثار عميقة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وعلى الحقل السياسي برمته. السبب الرئيس للأزمة في إسبانيا هو «فقاعة الإسكان»، أي الصعود الصاروخي لأسعار السكن، الذي عرف انهياراً كارثياً في 2008.
في 2007، كانت إسبانيا تفتخر بتحقيقها فائضاً في الميزانية بلغ 1.9 في المائة، وبوجود دَيْن عمومي لا يتعدى 36 في المائة من الناتج الداخلي العام، ولكن بعد انهيار فقاعة السكن انهارت مداخيل الدولة... وبلغ عجز الميزانية أكثر من 11 في المائة، وارتفعت المديونية (خوان كارلوس هيدالغو، التقشف في إسبانيا)، وتبين أن نمو الاقتصاد الإسباني قبل 2008 كان غير مستديم.
بدأ انهيار أسعار السكن في 2009، وفقدت المساكن نحو 50 في المائة من قيمتها مع حلول سنة 2015، وبلغت قيمة القروض البنكية «المُفلسة» سنة 2013 ما يزيد على 34 مليار يورو، ومجموع القروض «المُفلسة» ما بين 2010 و2018 أكثر من 210 مليارات يورو.
في 2012، حصلت إسبانيا من «ميكانيزم الاستقرار الأوروبي» على 100 مليار يورو لتحصين القطاع البنكي من الانهيار مقابل سياسة تقشفية تقتضي خفض الإنفاق العمومي وتجميد الأجور. واضطرت الحكومة كذلك إلى سن ضرائب جديدة سعياً لتحسين المؤشرات الماكرو - اقتصادية.
النتيجة كانت 10 ملايين إسباني تحت عتبة الفقر، ونسبة بطالة بلغت 27 في المائة سنة 2013 (المعهد الإسباني للإحصاء: «الساكنة النشيطة»)، وتدهور في مستوى الأجور وتأثير مباشر على القدرة الشرائية وعلى الحياة اليومية للإسبان.
مع الأزمات الخانقة تظهر الحلول السهلة خصوصاً من الهوامش. تأسس حزب «بوديموس» (نحن قادرون) الشعبوي اليساري في 2014 من طرف بابلو إكلسياس ورفاقه مستغلين الدينامية التي خلقتها الحركات المناهضة للتقشف ابتداء من سنة 2011، خصوصاً حركات «ميم 15» و«حركة المتذمرين» و«حركة احتل الساحة»، التي أطرتها مبادرات رقمية مثل «الديمقراطية الحقيقية الآن» و«شباب من دون مستقبل».
ركز «بوديموس» على آيديولوجية مناهِضة للتقشف، وعلى التشكيك في الاتحاد الأوروبي، وعلى ضرورة اعتماد ديمقراطية مباشرة، وهو ما جعل نجمه يسطع بسرعة ليتحول من حركة شعبية مناهضة للعولمة وللصرامة الماكرو - اقتصادية إلى ثالث أكبر قوة سياسية في إسبانيا بعد انتخابات 20 ديسمبر (كانون الأول) 2015، حيث حصل على 21 في المائة من أصوات الناخبين الإسبان.
ظهور «بوديموس» كحزب قوي على الساحة الإسبانية قوَّض ثنائية اليمين - اليسار، وجعل الأحزاب التقليدية في موقف دفاعي. وبما أن أياً من الأحزاب لم يحصل على أغلبية، وعدم نجاح زعيم «الشعبي» ولا زعيم الاشتراكيين في تشكيل حكومة، تم اللجوء إلى طلب استمرار حكومة ماريانو راخوي في تصريف الأعمال، ودعوة الناخبين إلى صناديق الاقتراع مجدداً في 26 يونيو (حزيران) 2016.
لم تعط هذه الانتخابات أغلبية واضحة بدورها، ليستمر الجدل والتقاطب والرفض والرفض المضاد: الاشتراكيون لا يرغبون في التحالف مع الشعبي، نظراً لفضائح الفساد التي رافقت حكومة راخوي الأولى (2011 - 2016)، بينما يرفض «سيودادانوس» (الوسطي الليبرالي)، أي تحالف يكون «بوديموس» المتطرف طرفاً فيه.
و«بوديموس» يضع شروطاً «تعجيزية» تجعل تحالفه مع الاشتراكيين مستحيلاً: التراجع عن سياسة الحد من الإنفاق العمومي، ودعم تقرير المصير في كاتالونيا والأقاليم ذات الميول القومية.
كانت إسبانيا تتجه حتماً إلى انتخابات ثالثة، لولا أزمة الحزب الاشتراكي الداخلية وحروب الزعامة بين سوزانا دياز (رئيسة إقليم الأندلس) وبيدرو سانتشيز.
التصدع الحاصل داخل الحزب جعله يصوت على الامتناع عن معارضة حكومة أقلية يقودها راخوي، لتمكين إسبانيا من حكومة بعد شهور من الانتظار، وهو ما حصل في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2016.
ولدت حكومة راخوي الثانية ضعيفة، لأنها كانت حكومة أقلية، وتشتغل تحت رحمة الاشتراكيين الذين امتنعوا عن التصويت على تصريحها، والتزموا بعدم التصويت على أي محاولة لسحب الثقة منها في المستقبل القريب. ولكن هذا المستقبل لم يُعمر طويلاً. فقد أقدم بيدرو سانشيز على سحب البساط من تحتها يوم 31 مايو (أيار) 2018، أي بعد أيام معدودة على إصدار المحكمة الوطنية الإسبانية أحكاماً ثقيلة ضد أعضاء ساميين في الحزب الشعبي، فيما أصبح يعرف بفضيحة «كورتيل».
حكومة سانتشيز الاشتراكية التي أتت بعد أفول نجم راخوي كانت حكومة أقلية كذلك بعد فشل المفاوضات مع بوديموس حول نوعية المناصب الوزارية والقضية الكاتالانية. وهو ما جعل سانشيز يدعو إلى انتخابات جديدة في أبريل (نيسان) 2019، التي حصل فيها على 123 مقعداً، بينما انحدر الحزب الشعبي إلى 66 مقعداً، ودخل حزب «فوكس»، اليميني المتطرف، الساحة السياسية بـ24 مقعداً.
ورغم نجاح الاشتراكيين الباهر لم يتوفقوا في تشكيل أغلبية منسجمة؛ خصوصاً مع «بوديموس»، وهو ما جعل سانتشيز يدعو إلى انتخابات جديدة (الرابعة في ظرف سنتين)، التي جرت يوم الأحد 10 نوفمبر 2019، وهي انتخابات أتت على خلفية «أزمة السيادة» مع كاتالونيا، التي تم تعميقها بأحكام ثقيلة ضد القادة القوميين الباسك يوم 14 أكتوبر 2019 بتهمة الانفصال وضرب سيادة إسبانيا، التي نتجت عنها مظاهرات مُسانِدة ومضادة.
نتائج انتخابات 10 نوفمبر 2019 جاءت مخيبة للآمال: حافظ الاشتراكيون على موقعهم في الصدارة بـ120 مقعداً، بينما تقدم الشعبيون بـ23 مقعداً، وانحدر «بوديموس» اليساري إلى 35 مقعداً. لكن أكبر خاسر هو «سيودادانوس» الذي اقترب من الاندثار بـ10 مقاعد وأكبر رابح هو «فوكس» اليميني المتطرف المعادي للهجرة وأوروبا بـ52 مقعداً (بزيادة 28 مقعداً).
صار اليمين المتطرف ثالث أكبر قوة سياسية في البلاد، وتقدم اليمين بشكل عام على حساب الوسط واليسار المتطرف، بينما حافظ الاشتراكيون بصعوبة على موقعهم. ولكن لا يمكن لأي حزب أن يحكم وحده وآفاق التحالفات تبدو صعبة للغاية: الاشتراكيون و«بوديموس» أعلنوا عن التوصل إلى اتفاق مبدئي يوم 12 نوفمبر، ولكنهما سوف يبقيان أقلية، لأنهما بـ155 نائباً سوف يحتاجان لـ21 نائباً لضمان أغلبية والتحالف مع أحزاب اليمين يبقى خطاً أحمر لكل منهما. هكذا تستفحل الأزمة، وتصير أعمق مع كل انتخابات. أصبحت الأصوات المتطرفة ملاذ شرائح كبيرة من الشعب الإسباني الغاضبة. هذه المرة كان الرابح السعيد هو اليمين المتطرف.
هل هذا تحول بنيوي أم عابر، كما رأينا مع «بوديموس»؟ لا أحد يعرف. ما يُجمع عليه الكل هو أن إسبانيا يصير نفقها أظلم مع كل انتخابات.
* خبير لدى البنك الدولي
ووزير مغربي سابق