سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

بماذا تفكّر فيروز؟

بفضل التزامن بين عيد الاستقلال وعيد ميلاد فيروز، غالباً ما تقترن المناسبتان السعيدتان، وربما كتب اللبنانيون لنجمتهم، أكثر مما عنوا باستقلالهم الذي لم يبد لهم ناجزاً يوماً، أو جديراً باحتفاء حماسي كبير. هذه السنة تأتي المناسبة، فيما الانتفاضة الشعبية مشتعلة في الشارع، وأهم مطالبها عودة القرار الحر إلى الناس، بعد أن اختطفته الطائفة، وتاجر به زعماؤها وحواشيهم.
وكانت فيروز والرحبانيان من أوائل المنتفضين على جنون المذهبيات وتناحر الإخوة، منذ مطلع خمسينات القرن الماضي، حين تجاوزوا الواقع بكل مثالبه، وغنوا للبنان الواحد، والوطن المتألم المتعالي على جراحه بالمحبة، وحلموا ببلد لشدة نقائه، اتهم بأنه محض شعر ويوتوبيا، وهناك من رماهم بالبعد عن هموم الناس، وحتى التخلي عن المسؤولية، والهروب من توجيه سهام النقد اللاذعة لمن يستحقها. لم يعبأ الرحبانيان، ولم ييأسا من الكتابة والتلحين، ولم يتعب صوت فيروز الخفيض، الذي يعبر الزمن سلاسة وشجناً، من مناجاة الأمل، ومناداة وطن «صغير بوسع الدني»، «من برق القصايد طالع» و«قمر الندي والزنبق» ومن «ذهب الزمان الضايع». غنى اللبنانيون مع فيروز «بتتلج الدني وبتشمس الدني، ويا لبنان بحبك لتكبر الدني» في كل حفلاتها تقريباً. بكوا على هدهدات صوتها في المغتربات، رددوا وراءها أغنياتها عن «الحرية» و«الحب» و«النصر» و«الكرامة» كأناشيد تشد عزائمهم كلما ابتلوا بفتنة أو ضربتهم محنة. وبقوا يؤكدون أنهم «بفقره وبعزه وبجنونه» يحبونه رغم الجور، وهم يبحثون مع مغنيتهم الأثيرة عن «مواسم العصافير» ويجففون «دمع الزهر». غنت فيروز في كل مدينة عربية نادتها، وجمعت بصوتها لبنان كله. ومع أن الانتفاضة بعنصرها الشبابي لم تكن فيروز على لائحة أغنياتها الأكثر ترداداً، إلا أن ألحان هذه الأغنيات بدت من بين المفضلات لإعادة تركيب ما يناسبهم من معانٍ تتواءم مع الاحتجاجات، وأماكنها وظروفها. هكذا فعل المحتجون حين كانوا يتناولون فطورهم في «الزيتونة بيه»، أحد المشاريع السياحية المتهمة بمخالفات كبيرة، أو وهم يقطعون الطريق ويعلنون غناء عن نيتهم التسامح مع من يحتاج اجتيازها للضرورة القصوى. لكن فيروز لم تغب عن «ساحة رياض الصلح» وسط بيروت. وحصدت أغنيتها «بحبك يا لبنان، يا وطني بحبك، بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك» جنوناً عاصفاً، بينما كان الآلاف من مختلف المناطق يلتقون مع بعضهم البعض، للمرة الأولى، تحت أجنحة العلم اللبناني وحده، نابذين كل انتماء لهم غير ولائهم الوطني، ليحولوا هذه الكلمات إلى نشيد وطني، وهم يهتفون به عالياً من حناجرهم التي طغت على صوت فيروز وموسيقاها، وبعضهم يذرف الدمع، تأثراً. وكأنما هذا الكلام، البسيط، بقي ينتظر عشرات السنين، منذ كتب في عز الحرب الأهلية وانقسامات المناطق، احتجاجاً على الفرقة والتشتت، ليغنى في هذه اللحظة الجامعة الحالمة، من قبل أهالي المناطق في وقت واحد، وفي مكان رمزي ليس لهم وحدهم بل لفيروز أيضا. فهي التي اختارت وسط بيروت بعد أن انتهت الحرب الأهلية لتقيم حفلتها الأولى في زمن السلم غير آبهة بكل الأصوات المستنكرة خيارها هذا، فيما كان مشروع إعادة إعمار قلب المدينة، موضع خلاف بين اللبنانيين أنفسهم.
ليس لأحد أن يقول لفنان ما يحق له أن يفعل، وما يتوجب عليه تجنبه. لم يرد الرحبانيان، على عكس زياد، أن يكتبا أغنيات نقدية تستجيب لملوحة الأرض. اختارا أن يحلقا فوق اليومي العابر، ويسرحا في آمالهما الطفولية إلى عالم يسمح لعشاق فيروز أن يستمعوا إليها في كل بقعة، وفي كل زمن، وبعد تبدل الأحوال. وكانا على حق. لهذا صمدت أغنيات فيروز، ووصل صدى صوتها بعيداً.
فيروز الغائب الأكبر عن مشهد الانتفاضة اللبنانية، مع أنها من بين المؤسسين لها، دون أن تدري، بتحريضها على الجمال، والانعتاق من العصبيات، والبحث الدائب عن الحلول المستحيلة وهي تتجاوز الأرضي إلى الأفق المنفتح على الاحتمالات. هي الأم التي حرثت، وغرست شتلتها، ونمت شجرتها. ولا بد أنها قلقة اليوم، كما كل الأمهات الأخريات، لأن الثمر لم ينضج بعد، ولن تستكين إلا بعد أن تتيقن من جودة القطاف. هل كانت تفكر أن أغنيتها «يا حرية، يا زهرة نارية، يا طفلة وحشية، يا حرية» سيستجاب لها خاصة حين كانت تطلق لحنجرتها العنان صارخة: «قولوا للحرية نحنا جينا وافرحوا، افرحوا».
لا أحد يعرف ماذا يدور في خلد فيروز في هذه الأيام، لكننا نعلم أن اللبنانيين، كانوا معها على الموعد، لم تلههم ثورة، ولم تسرقهم تظاهرات، ولم تثنهم انشغالاتهم الحياتية الصعبة وضائقتهم المادية. هبّوا كما كل سنة، يشاركونها عيدها، ويبادلونها المحبة، ويكتبون لها أجمل ما عندهم، وهم ينبشون أجمل أغنياتها، ويعيدون نشرها والاستماع إليها. المفارقة اللافتة أن الاختيارات لم تقع على تلك الوطنية، الحماسية، التي يمكن أن تتناسب والوضع الراهن. ذهب الناس إلى الأغاني الأكثر رومانسية ودفئاً. قد يخيل إليك وأنت الآتي من جيل كان يتظاهر على وقع هتافات الموت، والدم والفداء، أن الميل في مثل هذه الظروف، هو للعنفوان ولأغنيات من صنف «بالغضب مسور بلدي»، حيث تصبح «الكرامة غضب والمحبة غضب، والغضب الأحلى بلدي». لكن عشاق «جارة القمر» فضلوا، في هذا الظرف بالذات، هدوء «نسم علينا الهوا»، و«إيه في أمل»، و«وجهك بيذكر بالخريف». ولكل أن ينهل من نبع فيروز ما يروق له، فهي المرأة المتعددة في وحدتها، على صورة لبنان. وظاهرة لا تقل عنه تركيباً في جماليتها.