ليونيد بيرشيدسكي
TT

البيروقراطية تعرقل الأحلام الروسية

يبدو أن المشاريع الوطنية الكبرى التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - أي مخططات الإنفاق الحكومي الرامية إلى استعادة النمو الاقتصادي في روسيا - لا تزال عالقة لا تتحرك.
ومن المثير للاستغراب، أن الأموال ليست هي المشكلة: فهناك ما يكفي منها لتمويل تلك المشاريع، لكن البيروقراطية الحكومية الروسية تمتنع عن إنفاق تلك الأموال، خشية منها على ما يبدو من تحمل عواقب النتائج السيئة لتلك المشاريع.
وتتصور تلك المشاريع بلوغ النفقات الإجمالية نحو 25.7 تريليون روبل روسي (ما يساوي 400 مليار دولار أميركي) حتى عام 2024.
وهي تهدف إلى تعزيز نوعية الحياة في روسيا على معناها الأوسع، من حيث توفير الرعاية الصحية الأفضل، وتحسين التعليم في المدارس والجامعات، وتحسين الأحوال المعيشية في المدن المشيدة منذ الحقبة السوفياتية السابقة. ولقد أشار الرئيس الروسي إلى التراجع الملحوظ في شعبيته محلياً، وهو عاقد العزم بحلول فترة رئاسته الراهنة التي تنتهي بحلول عام 2024.
أنه أكثر جدية واهتماماً بما هو أكثر من أجندات السياسات الخارجية. غير أن البرنامج المأمول، والذي جرى الإعلان عنه للمرة الأولى خلال العام الماضي، قد بدأ بداية بطيئة للغاية.
وفي وقت سابق من الشهر الجاري، نشرت «غرفة المحاسبة»، وهي هيئة الرقابة على الميزانية الروسية، تقريراً عن حالة الإنفاق الفيدرالي الروسي خلال الشهور التسعة الأولى من عام 2019 الجاري.
ووفقاً للتقرير الحكومي، في حين أن إجمالي إنفاق الميزانية قد بلغ 62.9 في المائة من المخصصات السنوية (وهو أدنى معدل مسجل في نفس الوقت من العام منذ عام 2010 على الأقل)، إلا أن الإنفاق على 12 مشروعاً وطنياً كبيراً، بالإضافة إلى الخطة ذات الصلة بتحديث البنية التحتية الأساسية في روسيا ممثلة في خطوط السكك الحديدية والموانئ، قد بلغت 52.1 في المائة مما جرى تخصيصه فقط للعام الجاري. وفي بعض هذه المشاريع، ولا سيما الجهود المبذولة لأجل تعزيز الاقتصاد الرقمي الروسي، لم يتم بالكاد إنفاق أي من الأموال المخصصة لذلك. ولقد بلغ الإنفاق الإجمالي على الجزء الخاص بالمشتريات من تلك المشروعات، وهو الجزء الذي يختلف تماماً عن أشكال الإنفاق الأخرى من شاكلة الإعانات أو التحويلات إلى السلطات الإقليمية الروسية، نحو 14 في المائة من المبالغ المخطط لها خلال العام الجاري.
أنفقت الحكومة الروسية، خلال الشهور التسعة الأولى من عام 2019 الجاري، حصة صغيرة من الأموال المخصصة للعام الجاري على مشاريع فلاديمير بوتين الوطنية الكبرى.
وتُخفق روسيا بانتظام في إنفاق الميزانية بالكامل في أي عام معين. بحلول نهاية عام 2018 الماضي، كان هناك فائض في الميزانية يبلغ 778 مليار روبل (12.1 مليار دولار).
وفي العام الجاري، يتوقع أليكسي كودرين، رئيس «غرفة المحاسبة الحكومية»، بقاء تريليون روبل روسي في الميزانية. ويعتبر السيد كودرين، وهو وزير المالية الأسبق، وأحد أبرز الليبراليين في النظام الحكومي الروسي، ومن أشد الموالين للرئيس بوتين الذين يفضلون صياغة السياسات الحكومية الأكثر تقدمية. ولقد صرح أمام البرلمان الروسي مؤخراً قائلاً: «لماذا لا ننفق التريليون روبل، أو نسبة الواحد في المائة من الناتج المحلي الإجمالي؟ بطبيعة الحال، لا يتسنى للمرء القول بأننا نملك الكثير من الأموال لإنفاقها، وهذا هو السبب في عدم استطاعتنا الإنفاق. وأعتقد أن مرد ذلك إلى الحكومة ذات الجودة المنخفضة».
في عام 2017. نشر أليكسي كودرين رفقة زميله الخبير الاقتصادي ألكسندر نوبل ورقة بحثية تفيد بأن روسيا بالغت في إنفاق الأموال على البرامج الحكومية حيث يرتبط الإنفاق بصورة ضعيفة أو هي سلبية مع النمو الاقتصادي، مثل الدفاع والأمن، وكان الإنفاق الحكومي قليلاً للغاية على تلك البرامج التي تحفز التوسع الاقتصادي، مثل التعليم.
وكانت المشاريع الوطنية الكبرى لدى فلاديمير بوتين بمثابة الاستجابة الحكومية لمعتقدات كوردين ونوبل الاقتصادية.
يشير بيان السيد كوردين أمام البرلمان الروسي إلى أن البيروقراطيين في الحكومة لا يعرفون ببساطة كيفية إدارة المشاريع المعززة للنمو الاقتصادي. ومن المرجح أن ينتابهم خوف كبير جراء ذلك من إنفاق الأموال المخصصة بأساليب يمكن أن تسبب لهم المشاكل فيما بعد. ونظراً لأن المشاريع الوطنية هي الخطة الشخصية للرئيس فلاديمير بوتين، فهي تحظى باهتمام كبير لدى الجهاز التنفيذي القوي والممول بشكل جيد في الدولة. ويرغب بوتين في التأكد من عدم سرقة أي من الأموال المخصصة لتلك المشاريع.
وهذا من غير اليسير تنفيذه برغم كل شيء. وكما غرد سيرغي ألكساشينكو، النائب الأسبق لمحافظ البنك المركزي الروسي، والمعارض الحالي لبوتين، في وقت سابق من الأسبوع الجاري، فإن متطلبات إنفاق أموال الميزانية مكتوبة ومعروفة وبالتالي يكون من المحال تنفيذها من دون خرق القواعد. وعندما يسأل أحد المسؤولين نفسه إن كان يريد التعامل يوماً ما مع مكتب النائب العام الروسي، فإن الإجابة الواضحة من دون تردد هي: فلتذهب المشاريع الوطنية إلى الجحيم!
ومن شأن مجموعة مختارة من أقرب أصدقاء بوتين الاستفادة من الإنفاق الحكومي. على سبيل المثال، قال المدير التنفيذي لإحدى الشركات الكبرى المملوكة لصديق بوتين في رياضة الجودو أركادي روتنبيرغ، إن مشروع الجسر الذي تموله الحكومة بين البر الروسي الرئيسي وبين شبه جزيرة القرم سوف يكون مشروعاً من مشاريع التغطية الكاملة. ولكن منذ وقت ليس بالبعيد، باع السيد روتنبيرغ إحدى الشركات الضالعة في تنفيذ مشروع بناء الجسر إلى شركة «غازبروم» الوطنية للغاز الطبيعي الخاضعة لإدارة الدولة مقابل مبلغ قدره 75 مليار روبل. وكان السيد روتنبيرغ قد ابتاع خمس شركات اندمجت تحت مظلة تلك الشركة المباعة لقاء 8.3 مليار روبل في عام 2008 – من شركة «غازبروم» الوطنية أول الأمر!
بطبيعة الحال، لا يمكن لأي مواطن الاطلاع على مثل تلك المخططات.
إذ يتم إلقاء القبض بصفة دورية على الموظفين البيروقراطيين وجهات تلقي الإعانات والحكم عليهم بتهمة سوء إنفاق الأموال الحكومية حتى وإن حققوا النتائج المطلوبة. أمضى كيريل سيربرينيكوف، المخرج المسرحي الروسي المعروف، وأحد المحبوبين في الأوساط الثقافية الروسية، 19 شهراً رهن الإقامة الجبرية بتهمة اختلاس الأموال الحكومية، رغم مقدرته على نشر فيديوهات حول العروض المسرحية التي أنفقت عليها تلك الأموال بما يتفق بكل صرامة مع التعاقدات الحكومية المبرمة. ولم تتم تبرئة ساحته تماماً حتى اليوم.
وفي وقت سابق من الشهر الجاري، أعلن مكتب النائب العام الروسي أنه يحقق في 2500 مخالفة متنوعة تتعلق بإدارة المشاريع الوطنية، والتي تشتمل بصورة أساسية على توزيع الإعانات والمشتريات. وبعض من هذه المخالفات سوف ينتهي بها الحال إلى توجيه الاتهامات الجنائية، فلا عجب أن ميزانية المشتريات الروسية وحدها تشكل 14 في المائة من الإنفاق حتى نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي فقط.
إن جهود التأميم الزاحفة في ظل حكم فلاديمير بوتين، مع التمكين الكبير المصاحب لهيئات إنفاذ القانون، قد خلفت معضلة عميقة للغاية.
فليست هناك مساحة مخصصة قط للمبادرات أو الاستثمارات الخاصة الرامية إلى تعزيز النمو الاقتصادي بما يتجاوز 1 إلى 2 نقطة مئوية على أساس سنوي، لكن ولا حتى فلاديمير بوتين نفسه يثق في كفاءة الإنفاق الحكومي بسبب الفساد المتفشي في كل ركن. ونتيجة لذلك، لا تزال الأموال الحكومية تذهب إلى اللاعبين الذين يملكون الصلات الجيدة للغاية بما يحفظهم من مواجهة المحاكمة، ثم يجري حجب تلك الأموال عن جهات أخرى.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»