فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

العيش عبر نوافذ التقنية!

يبدو العالم الذي نعيشه أصغر من العوالم التي نشاهدها. الأجهزة الساحرة التي أدمنَّاها. الألواح المضيئة الخارقة الملازمة لحركاتنا وسكوننا، صنعت عالماً موازياً مثقلاً بأغلال التقليد والاستهلاك.
عالم مليء بالدهشة والمثالية، في «الستوري» وقصص الحياة وبث «اللايف»، بعجائب «إنستغرام» و«سنابشات»، في رحلات النجوم والمشاهير حمولة من الأعاجيب صارت تسكن الأذهان أكثر من واقعنا الذي نتعثر به. لا يكاد الإنسان يبصر طريقه، يترك عالمه الواقعي هارباً منه ليتابع من نافذة بحجم رأس إبرة عوالم الآخرين. لا يعرف أنهم مثله، لديهم تعاساتهم، وهشاشاتهم، حماقاتهم وأمراضهم، أعمالهم وأعطالهم، يحملون معهم أكاذيبهم ويتجولون بها في أنحاء العالم. عالم مزيف بامتياز، يضع أمامك الصورة بعد التنقية والتنظيف، وتظن أن حياتهم غير حياتك، أنهم فازوا بجنان الدنيا، بينما بقيتَ تُشوى في جحيمها، يتلوَّى المتابع من الأسى، يبصر نجوم «السوشلة» وقد فازوا بالفرائس السمان، لم يتوجه إلى ذاته بسؤالٍ عن هؤلاء، يظنهم في عالم مشعٍّ بالحياة والسعادة، بينما هم غارقون في تنقية البشاعة التي يدرجون عليها، ويمشون بها، إنهم يعطونك الصورة الأنقى؛ لأنهم يرتابون من واقعهم، يشعرون بضرورة إغاظتك، وما إن تشعر بذلك حتى يمطروك بوابلٍ من الإعلانات؛ لأنهم ظفروا بك، لقد وجدوا منك أداة ووعاء للفظ الدمامات، ويصمُّون أذنك بالثرثرة والكذب. نعم إنهم يكذبون عليك، ويكذبون بك، ويكذبون منك.
«الغثيان» ما شعر به سارتر وحده، و«الوجود الزائف» ما استفز هيدغر منفرداً، وإنما هذا التخلي عن عيش الواقع بكل تحدياته، للاستعاضة به عن واقعٍ من دون عثرات، أو نقائص، أو شوائب، أو منغصات، واقعٍ خرج عن سنن الكون. يركض بك النجم معه من عالم إلى آخر، جاعلاً منك تابعاً طائعاً مغتاظاً، يوجهك نحو مقتنياتٍ استهلاكية، يجعلك ترفض زيك وواقعك ولبسك، وتظن أنك خاسر القرية الوحيد، إذ لم تصل لهذه النجومية، والثراء السريع، أن يكون العبث واللهو والطيش وظيفة دنيوية يومية لكسب مبالغ لا يعثر عليها أصحاب المهن النبيلة، الواصلين إليها بعد تعلم وترحال، وجلدٍ ومثابرة، يُتَفِّهون لك الواقع، يقولون لك وأنت تضغط على زر متابعتهم في هاتفك: «ماذا جنيتَ أنت من نصَبك وتعبك، وتعلمك ودرسك، نحن هنا نركض بين المطاعم والعواصم، بصورة واحدة نأخذ ما تأخذه من عملك حتى تقاعدك»!
حسناً، هل غلبنا كل هذا العالم الكاذب؟!
درس جاك دريدا «تاريخ الكذب» بمحاضرة في «الكوليج دو فرنس» ألقاها في أبريل (نيسان) عام 1997، طبعت بنحو 120 صفحة، وهي ثمينة، وكما يقول رشيد بازي في مقدمة ترجمته لها، فهي: «خلاصة للدروس التي ألقاها منذ عام 1994 وحتى 1997». بحث إمكانية تأسيس «تاريخانية» للكذب، معرجاً على ما درس قبله حول علاقاته الأخلاقية وإمكانية قول الصدق دائماً، وهل هذا «واجب أخلاقي» ضمن تطرق صغير لكانط الذي مرَّ على الكذب في ست صفحاتٍ: «كردٍ أثناء جدله مع بنجمان كونستان»، يحاور دريدا أيضاً ما كتبه هيغل وفوكوياما، ويساجل حنة أرندت. بالنسبة لدريدا: «لا جدال في أنه بإمكاننا وضع فكرة الكذب المطلق محل الشك، وذلك لأنها ما زالت تفترض إمكانية وجود معرفة مطلقة، يتضمنها العنصر المتمثل في الوعي الانعكاسي بالذات. من البديهي أن الكاذب يعرف الحقيقة، وإن كان لا يعرف الحقيقة فهو يعرف حقيقة ما يفكر فيه، ويعرف ما يعزم على قوله، ويعرف كذلك الفرق الموجود بين ما يفكر فيه وما يقوله، أي يعرف أنه يكذب». ولحديثه بقية ماتعة ذكية في صفحة 40 من الكتاب وما تلاها.
الفكرة الأساسية أن الكاذب يريد صنع حقيقة معاكسة لما يعرفه، لذلك فإن التقنية سهلت هذه المهمة، لا تحتاج إلى حكاية يمكنك نسجها ضمن حقيقة معاكسة لما تعرفه، لفرضها على المتلقي.
الجهاز بين يديك يصنع واقعة معاكسة على الدوام. هذه خطورة ما يضخ يومياً من مليارات «الستوري»، القصص في التطبيقات الإلكترونية، وهذه لم تخرج عن نطاق البحث والسؤال.
في عام 2018 طرح سيث ستيفنز دافيوتس كتابه: «الكل يكذب - البيانات الضخمة، والبيانات الحديثة، وقدرة الإنترنت على اكتشاف الخبايا» المؤلف خريج «هارفارد»، وخبير اقتصادي، ومحلل بيانات في شركة «غوغل»، الدراسة المهمة توضح مستوى علاقة التقنية بالكذب، على مستوياتٍ منها: الاستبيانات التي يشارك فيها الناس، ونفخ الذات في وسائل التقنية الاجتماعية، والكذب في شرحهم لما يعرفونه على مستويات المعرفة والطبابة والإجابة عن الاستفسارات.
لا يعتني الإنسان برؤية طريقه وهو يمشي، ينسى أن أمامه تحديات من أجل الوصول إلى هدفه. على الرصيف الطريق ليست دوماً سالكة، قد يغامر باحتمال تعثره، مقابل رمي عينه على النافذة الساحرة؛ مهووساً بملاحقة قصص الناس في التطبيقات، يهمل حياته وعيشه ورؤاه ومقولاته، من أجل ملاحقة ما يقولونه وما يعيشونه وما يكسبونه، هذا مسار تحوُّل فظيع في حياة البشر اليوم.
يقضي معظم الناس يومهم في متابعة عيش الآخرين في نوافذ القصص؛ لكنهم لا يستثمرون يومهم في صناعة عيشهم، وصناعة قصصهم.
ها أنت مللت من القراءة إن كان ثمة من يقرأ الحروف المصفوفة المتعبة، ربما تود الانتهاء من القراءة لمتابعة بقية القصص في «سنابشات»، إنها جرثومة عالمية، من ينجُ منها ينجُ من عظيم.
خطر الزيف والكذب والواقع الأنيق في «السوشيال» أثَّر على نفوس وأمزجة البشر اليوم. عالم افتراضي ينسون معه الواقع. نعم إنهم يكذبون، و«الكل يكذب» كما قال دافيوتس. الواقع أمامك معطى مباشر لك، أما الواقع خلف العدسة التي تسحرك فهو كذبة كبرى.