سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

مفكرة لشبونة: إلى جانب بيساوا

جالس في مقهى «برازيلييرا» (البرازيلية) في وسط لشبونة القديمة. إلى يميني كرسي من برونز، كل 5 دقائق، أو أقل، يجلس على هذا الكرسي رجل - أو امرأة - لكي تلتقط له صورة إلى جانب صاحب التمثال الذي إلى جانبه.
التمثال لرجل يعتمر قبعة من طراز عصره، ثلاثينات القرن الماضي. ويضع نظارتين طبيتين من زمنه. وربطة عنق طراز الفراشة الذي لم يعد شائعاً إلا عند نوادل المطاعم. يضع صاحب التمثال رجلاً على رجل، مثل سائر رواد المقهى. ويطرق مفكراً كما كان يفعل يوم كان حياً، يلازم هذا المقهى بعد ظهر كل يوم، عندما ينتهي دوامه في شركة المحاسبة. ذلك العمل الممل الرتيب خالي المخيلة والروح. وإضافة إلى الرتابة والملل، كل شيء متوقع ومحدد، حتى الساعة التي يقف فيها السنيور فاسكيز، صاحب الشركة، فوق رأسه ويردد: عينك على الحسابات يا سنيور بيساوا. الزبائن يأتمنوننا على أعمالهم مثل أرواحهم. ثم يمضي فاسكيز في طريقه إلى محاسب آخر ليردد الجملة نفسها. وبعد قليل ينتهي الدوام. وبدل أن يذهب فرناندو بيساوا إلى غرفته الصغيرة المستأجرة، يأتي إلى هنا، في هذا المقعد، يدوّن أفكاره في خط متعرج غير مقروء إلا بصعوبة.
عاش بيساوا 47 عاماً، لم ينشر في حياته أي كتاب. وبعد وفاته، قام مَن جمع أوراقه المقروءة في صعوبة وعناء، فإذا بهم أمام أهم شعراء البرتغال. سواء ما كتبه تحت اسمه، أو بأسماء 136 شخصاً تخيلهم، وأشهرهم «سيرة الرجل الذي لم يكن».
جئت إلى لشبونة، مثل هؤلاء الذين يلتقطون الصور معه، من أجل بيساوا أولاً. وسرعان ما تكتشف أنها أولاً مدينة بيساوا. وثانياً عاصمة البرتغال. ويفرض مقهى «برازيلييرا» على زبائنه سعرين، كما تقول لائحته. سعر الخارج، الاسبلانادا، قرب بيساوا، وسعر الداخل الخشبي حيث لا تعد تراه، وكأنك في مقهى آخر. سعر الخارج يزيد ثلاثين في المائة على سعر بلا مرأى من شاعر البرتغال.
كل خمس دقائق تقريباً، يأتي أحد عابري الساحة ويجلس على هذا الكرسي إلى جانب هذا الرجل الأقرب إلى رسم كاريكاتوري. يكفي أن ترم شاربين فتعرف أنه هتلر. أو عصا، فتعرف أنه شارلي شابلن، أو حاجبين، فتعرف أنه أينشتاين. قبعة عالية في الوسط، وشاربان حزينان، وربطة عنق طراز الفراشة، فتعرف أنه بيساوا. وها أنا إلى جانبه، الكرسي التالي، أما الكرسي البرونزي إلى جانبي، فقد حف من كثرة الزائرين. جميعهم يريد القول إنه مر بقرب الرجل الذي كان مختبئاً بوظيفة محاسب عند فاسكيز، فيما هو صاحب «كتاب الاضطراب».
إلى اللقاء...