خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

أدب الشحاذة

أدبنا حافل بشتى المجلدات والرسائل والفصول المتخصصة بشتى المواضيع؛ من ذلك كتاب البخلاء للجاحظ. ولكنني أستغرب أنه لم يحاول أحد إصدار كتاب عن الشحاذين، رغم أنهم في مدننا وأسواقنا، ويغص أدبنا بحكاياتهم وطرائفهم؛ هذا موضوع نبز به الغربيين، فليس لهم مثل ذلك إلا النادر القليل. وأنا بدوري لم يعد بيدي متسع من الوقت لأكرسه لهم، أي شحاذينا. بالطبع، لدينا حكايات أشعب الطماع التي تضم شيئاً عن حرفة الشحاذة ولوذعية الحصول على الأكل.
الشحاذون موجودون في سائر بلدان الشرق الأوسط، ولا سيما البلدان السياحية. أتذكر أنني شهدت كثيراً منهم في سياحاتي؛ كانوا أمام باب الفندق ليستعطوا منا بشتى العبارات العاطفية والذكر الحكيم. وقد وجد ولدي نائل وآدم متعة كبيرة في إعطائهم بعض النقود والاستماع لدعائهم. وجرى نزاع بين الولدين بهذا الشأن، فقسمت الشحاذين بينهما، وهكذا.
بالطبع، كثرة الشحاذة عندنا سببها الفقر والجوع، وهو ما غرد به أحدهم حين قال:
يا رب إني قاعد كما ترى
وزوجتي قاعدة كما ترى!
والبطن مني جائع كما ترى
فما ترى يا ربنا فيما ترى؟

حكايات الشحاذة والشحاذين كثيرة طريفة، تستعطي من الأدباء وأصحاب القلم تسجيلها وتبويبها. وقف سائل على باب يستعطي، وقال: تصدقوا عليّ، فإني جائع والله. أجابته صاحبة البيت وقالت: لم نخبز بعد، فقال: لقمة من الأكل، فقالوا: لم يصلنا الطعام من السوق بعد لنطبخ، فقال: شيء من الماء أقطع به عطشي، قالوا له: ما أتانا السقا هذا اليوم، فلم يملك غير أن يرد عليهم قائلاً: يا أولاد الحلال، فما قعودكم هنا؟ قوموا واشحذوا معي.
والغريب أن عمل الشحاذة موقوف على الرجال، ولا ذكر للإناث فيه، مع أن الجوع ربما يفتك بالنساء أكثر من الرجال؛ وقل ربما حاول الرجال هنا أيضاً احتكار هذه المهنة لأنفسهم فقط.
بيد أن امرأة اضطرتها الحاجة للتسول، فذهبت إلى قيس بن سعد بن عبادة، وكان من مشاهير الأجواد، فقالت له: «أشكو إليك قلة الجرذان في بيتنا». وكان قولاً في منتهى الظرافة والبلاغة في التعبير عن الحاجة بأدب وحشمة. فالجرذان تهجر البيت الذي يشح فيه الطعام، وهو ما أشارت إليه امرأة أخرى تعبيراً عن الحاجة، بقولها: والله لا يقيم الفأر في بيتنا إلا لحب الوطن.
وذكروا وقالوا إن أحد الشحاذين سار يطرق على الأبواب وينادي: «عطايا صغيرة تدفع بلايا كبيرة»، وهو أحد مفاتيح المهنة. طرق باب أحد الدور، وخرج إليه صاحب البيت ليقول له معتذراً: آسف، امرأتي خارج البيت، ذهبت للسوق. فأجابه الشحاذ قائلاً: أنا ما جئت أريد قبلة من امرأة؛ كل ما أريده هو كسرة خبز.